لقد بدأت ثقافة العمل التطوعي تزداد رقعتها يوما بعد يوم في السنوات الأخيرة، وبدأت تنتشر ثقافتها في أوساط المجتمعات، رغم عدم اهتمام وسائل الإعلام بهذا المجال، حيث إن الكثيرين يحبّون فعل الخير، ويضحّون بالكثير من الوقت والمال في سبيل المشاركة فيه، وليس همُّهم الوحيد الأكل والشرب، ولديهم قدر كبير من المسؤولية تجاه الآخرين في مجتمعهم، ويملكون عقولًا خيرة تترجم ما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف إلى واقع عملي، يُعلي من قيم الخير في المجتمع.

ولكنّ مع هذا فإنّ العمل التطوعي تشوبه الكثير من الشوائب التي قد تنزع صفاءه وربّما قد تجعل بعض المخلصين يبتعدون عنه، وهنا أتكلّم عن مفاهيم وتصوّرات خاطئة انتشرت في صفوف المتطوعين الخيّرين وفي حقل العمل التطوّعي.

ولعلّ أوّل تصوّر خاطئ في حقل الدعوة هو ما يحمله المتطوّع ذاته في ذهنه عن التطوّع باعتقاده أنّه عملٌ يقوم به ليسدي به خدمة للآخرين فقط، متناسيّا أن هذا العمل يعود عليه بالفائدة من أجر أخروي ابتغاء مرضات الله عزّ وجلّ، وكذلك بغية تكوين نفسه وتعويدها على فعل الخيرات وتحقيق الإنجاز وتقدير الذات.

كما أنّ الكثير من المتطوّعين اليوم خاصة الشباب منهم يحسبون أنّ التطوع موضة غربية حديثة وثقافة أجنبية متناسين أنّها من صميم الإسلام، وأنّ أمتنا الإسلامية لها كل السبق في هذا المجال، بل هو في فطرة الإنسان الذي جبل على الخير ومساعدة الآخرين وتقديم خدمة لهم في شتّى المجالات.

ويخطئ كذلك بعض من يحسبون في خانة المتطوّعين أنّ التطوع أمر ثانوي فلا يدخلونه في أولوياتهم ويعطونه فضائل أوقاتهم وليس أفضل أوقاتهم، فتراهم يخصّصون أوقات فراغهم فقط لهذا العمل النبيل متناسين أن التطوّع رسالة سامية يجب أن تكون في أولى اهتماماتهم وليس مجرّد نشاط يقومون به في وقت الفراغ.

كما يخطئ البعض بتصنيفه للتطوع في زمرة الأغنياء ولمن يمكلون المال فقط متناسيًا أن التطوّع هو تقديم كلّ خدمة مفيدة للمجتمع وكل جهد يبذله الفرد بلا مقابل دائم لمجتمعه بدافع منه للإسهام في رقي المجتمع، وبالتالي فهو كل بذل مالي أو عيني أو بدني أو فكري يقدمه المسلم عن رضا وقناعة. فالغني والفقير ، والكبير والصغير، والرجل والمرأة كلّهم باختلاف أجناسهم وأصولهم ووظائفهم يستطيعون القيام بالأعمال التطوعية مساهمة منهم جميعًا في بناء مجتمع متكامل.

وممّا انتشر اليوم من مفهوم خاطئ لدى البعض هو أن التطوع يستلزم الانخراط في جماعات مهيكلة وتنظيمات وجمعيات للقيام بالتطوع بشكل جماعي، وهذا مفهوم يجب أن يصحّح في المجتمع؛ لأنّ ثقافة التطوع يجب أن تنتشر في أوساط الناس على حقيقتها، وبأن الفرد يمكنه أن يبادر بمفرده للهذا العمل الجليل، أو حتى في عمل جماعي منظّم، وإن كان هذا الأخير أكثر تأثيرًا.

والعمل التطوعي ليس كل عمل بلا مقابل، فلا ضرَرَ مِن تقاضي مردود ماديّ بسيط من أجل سدّ بعض الخدمات التي تعينه على القيام بخدمته التطوّعية على أكمل وجه، كالمواصلات… إلخ. وهذا المقابل المادي – المتفق عليه مسبقًا – لن يُقلّل من قيمة العمل أو من أجره الديني. وهو ما أصبحت تقوم به الكثير من المؤسسات الفاعلة في مجال العمل التطوعي الخيري والتي تحققّ أرقامًا مذهلة فاقت حتى ما تقوم مؤسسات الدولة في نفس الخدمة للمجتمع.

كما يرى البعض أن التطوع هو كلّ عمل يراد به منافسة أنشطة الدولة وهذا تصوّر خاطئ، فالتطوع هو إكمال لأنشطة الدولة وليست بديلًا لها، خاصة وأن هذه الأخيرة لها مالها من اهتمامات بقضايا وقطاعات كبيرة في شؤون السياسة والإقتصاد وفي مجالات اجتماعية أخرى.

ومن العقليات السلبية التي قد يتّصف بها المتطوّع أنّه ينخرط في العمل التطوعي الخيري لأنّه يراه وسيلة لتحقيق أطماع شخصية ومصالح ذاتية كبناء العلاقات مع مسؤولي الدولة ورجال الأعمال والآخرين في المجتمع واستغلال هذه المعارف والشخصيات في أعمالهم الشخصية، ومن أجل الشهرة والمجد والاسم فقط وربّما للوصول إلى الزعامة والسلطة، فتختلف نوايا المتطوعين، وهذا ما قد يجعل العمل التطوعي يأخذ صورة سلبية في أذهان الناس.

كما أنّ الكثيرين يعتقدون أن العمل التطوعي لا يكون إلاّ في الأزمات التي تلحق بالناس فقط كالكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وموجات حر ّ… إلخ أو كالمصائب الاجتماعية مثل المجاعة والأوبئة وغيرها، وهذا يتعارض مع ثقافة التطوّع التي يجب أن تسود في أوساط الناس في كل الحالات، سواء حالات الشدّة، أو حالات الرخاء من أجل بناء الثقة بين الناس وتعزيز ثقافة التعاون والتضامن بين الجميع.

ومن أكثر السلبيات انتشارًا في أوساط المتطوّعين في مجتمعاتهم هو أنّهم يصابون باليأس والإحباط بعد فترة قصيرة من دخلوهم عالم التطوع، حيث يحسّون بأن ما يقومون به من خير قليل مقارنة بحجم ما يطلبه ويحتاجه الناس من مساعدات وخدمات، وأن مبادراتهم غير كفيلة بسدّ نقائص الآخرين، فيتبادر إلى أذهانهم بأنّ هذا العمل الذي يقومون به هو من عمل الدولة ومؤسساتها ذات الإمكانيات الكبيرة، وليس من واجباتهم، وهذا التفكير ليس من الصواب، حيث يجب أن يفهم كلّ متطوع بأنّه يعمل على إيصال رسائل نبيلة للآخرين ويكون قدوة لهم، وليس المطلوب هو النتائج فقط، وفي قصّة سيدنا يونس عليه السلام عبرة لأصحاب الرسالات في مجتمعاتهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد