شاركتُ قبل عدة سنواتٍ في ورشة عملٍ عن التنمية البشرية، كانت الخبيرة تُحاول إعطاءَنا نصائحَ متعددةً في كيفية الحفاظِ على مزاجنا الإيجابي والجيد لأطول وقت ممكن، وكانت إحدى نصائحها هي أن نحاول قدْر الإمكان تَجَنب أيِّ أفكارٍ سلبية تقفز لعقلنا وإبعادها عن تفكيرنا، أخبرتنا بأنه يجب علينا أن نمسك بهذه الفكرة السيئة التي تزعجنا ونخرجها كليًّا من نطاق تفكيرنا لندخل في حالة من الإيجابية والمزاج السعيد. وفي الحقيقة، لقد أمضيت سنوات عديدة من عمري وأنا أحاول تطبيق هذه النصيحة، ولكنَّ تلك الأفكار المزعجة والسلبية تأبى إلا أن تعودَ وتتربعَ من جديد على عرش أفكاري المُبَجَّلة، لأصيَر في حيرة من أمري، أَهي أفكاري السلبية التي لا تتركني وشأني ولا تنتهي أبدًا؟ أم أنني أطبق النصيحة تطبيقًا خطأ؟
قبل فترة وجيزة، قررت قراءة كتاب «فن اللامبالاة» لمارك مانسون. بدأ هذا الكتاب، ومنذ قراءة الصفحات الأولى، يوجه إليَّ صفعاتٍ تَملَأنِي بصحوة مفاجئة حول طريقة تعاملي مع نفسي وأفكاري ومشاعري وأولوياتي. بدأ هذا الكتاب يكشف لي الستار عن أفضل السبل للعيش مع مشكلاتنا وتحمل المسؤولية تجاهها. بالطبع لن أقول إنَّه كشف لي أسرار الوصول إلى السعادة الحقيقية أو الراحة النفسية التامة؛ لأنه اتضح في نهاية الأمر أنه لا يوجد شيءٌ من هذا القبيل.
لقد اكتشفتُ أثناء تصفحي لخواطر مانسون العميقة والطريفة في الوقت نفسه، أنه لا يوجد أيُّ مشكلة في كوني أشعر بالسوء أو الانزعاج من أمر معين، لا يوجد مشكلة أبدًا! إنه أمر طبيعي وضروري أيضًا. ولكنَّ الأمر المهم هنا، أن أسأل نفسي عن سبب شعوري بالانزعاج وهل أن الأمر فعلًا يستحق أن أشعر بالسوء تجاهه أم لا. يركز مانسون على ضرورة تحديد اهتماماتك وقيمك في الحياة لتصبح قادرًا على تحديد انفعالاتك ومشاعرك تجاه المشكلات والمستجدات من حولك. فمثلًا عندما يكون توجهك في الحياة نحو قيم إيجابية مثل الصدق والإبداع، وتكون هذه القيم هي من أولوياتك، فإن حدوث أي أمر أو مشكلة من حولك لا تمس هاتين القيمتين، فإنه من المفترض ألا تشعر بالانزعاج أو السوء غير المبررين. إذًا، بيت القصيد في هذا الموضوع هو أن تسأل نفسك هل الأمر حقًّا يستحق الانزعاج أم لا، هل حقًّا أولي هذا الأمرَ الاهتمام الحقيقي لأشعر بالسوء تجاهه أم لا؟
نحن جميعنا نعلم أننا نمر بمشكلات حقيقية، مشكلات نهتم حقًّا لها، مشكلات تعد من أولوياتنا، ومشكلات تمس قيمنا في الحياة. وهذه المشكلات هي التي تخلق الأفكار السيئة التي تأبى الخروج من عقولنا رغم محاولاتنا في تطبيق نصائح خبراء التنمية البشرية، وإقصاء هذه الأفكار المزعجة والتمسك بالأفكار الإيجابية. ولكن مارك مانسون يحاول بجد أن يخبرنا في كتابه بأن الشجاعة الحقيقية والسعادة الحقيقية تكمن في ضرورة الإمساك بهذه الأفكار والمشكلات التي نعاني منها وتمحصها ودراستها جيدًا وتحمل المسؤولية تجاهها وحلها. فالخلطة السحرية تكمن في وجود شيء يدفعك لحل مشكلاتك، والسعادة الحقيقية تكمن في محاولة حل المشكلات وليس تجنبها أو الادعاء بعدم وجود مشكلات في حياتك أصلًا. فيقول مانسون: «يجب أن يكون لدينا شيء نحله حتى نكون سعداء. فالسعادة إذًا شكل من أشكال الفعل، هي نشاط نقوم به وليست شيئًا يأتينا ونحن في حالة سلبية متلقية».
إذًا فرغنا إلى نتيجة أن السعادة لا تكون بانعدام وجود المشكلات في حياتنا، لأن المشكلات لا تنتهي أبدًا، بل تكون بالسعي الحقيقي لمواجهة المشكلات وترتيب أولوياتنا وتحقيق النجاح في حياتنا. وهنا يجب أن نعلم أن نوعية مشكلاتنا تكون مرتبطة بنوعية قيمنا واهتماماتنا، فإذا كانت قيمتك في الحياة أن تكون في سعي دائم للمعرفة والعلم فإن مشكلاتك ستكون لها علاقة بهذه القيمة، وبالتالي حلها ربما لن يكون سهلًا، ولكنه سيكون واضحًا ومعروفًا. أما إذا كانت قيمتك في الحياة أن تظهر بمظهر الشخص المثالي الكامل أمام الناس فإنك ستواجه مشكلات سيئة بقدر سوء هذه القيمة. وهذا ما يشير إليه مانسون بأنه يوجد في حياتنا مشكلات سيئة ومشكلات أفضل. وعندما نُحَسِّن من قيمنا وأهدافنا فإننا سنحصل على مشكلات أفضل وليس أقل.
بهذه الطريقة العبقرية الفذة يحلل مارك مانسون العديد من القضايا والمعضلات الاجتماعية التي نعاني منها نحن البشر، مثل الفشل والموت والنجاح والسعادة والمعاناة. كتاب «فن اللامبالاة» هو بحر واسع مليء باللآلئ المضيئة ولا يسعني في هذا المقال أن أعرضها كلها لكم. قراءة هذا الكتاب تمنحك القوة والشجاعة لتغوص في أعماق نفسك وتصل إلى المواضع المؤلمة والمتناقضة والحساسة، وتشرع في حل مشكلاتك النفسية بنفسك دون تسليطها على الآخرين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست