التغريبة الفلسطينية، صلاح الدين الأيوبي، صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف وغيرها.. نحن نظلم أعمال الدكتور وليد سيف المعروفة إذا نظرنا إليها باعتبارها مجرد دراما تاريخية، تُقدم لنا قصص وحواديت الماضي في صورة شاعرية مؤثرة، وتُهديها لنا في قوالب أدبية مُتقنة السبك بارِعة الجمال.

لا نُماري بالطبع في أن الرجل أديب فذ، استطاع أن ينقلنا بقلمه إلى العصور الغابرة، أو أن ينقل العصور الغابرة إلينا من خلال النص وحده، ومن خلال اللغة الأدبية وحدها، تلك اللغة المُكثَّفة المُتماسكة، التي ناسبت العصور التي كان يتناولها الدكتور وليد في أعماله، ولولاها لما اكتمل العمل الدرامي ولا بلغ صورته النهائية المُتجانسة، حتى ولو بلغت الإمكانات الإخراجية والإنتاجية أعلى مستوياتها الممكنة.

لكن قيمة أعمال الدكتور وليد لا تنحصر في هذا الجانب فحسب، بل لها في الحقيقة بُعد أعمق من هذا بكثير، وهو البعد الفلسفي. وليس اكتشاف هذا البعد واستشعار وجوده بالمهمة الصعبة على المتابع لتلك الأعمال، فالنصوص الدرامية للدكتور وليد سيف مُشبعة بالتفلسف والتأملات الفكرية والتساؤلات الوجودية والمُفارقات والمُعضِلات الأخلاقية، التي عبَّرت عن كاتبها وهمومه الفكرية، وكتبته كما كتبها على حد وصفه.

ونحن في هذه المقالة سنكتفي بالإشارة العابرة إلى هذا الجانب الفلسفي لأعمال الدكتور وليد، ولن نتطرق إلى أمور كالمصداقية ودقة المعلومات التاريخية والموازنة بين الدراما والحقيقة دون تشويه لها.

 

الفكرة الجوهرية

لم تكن البدايات الأدبية للدكتور وليد في عالم النصوص الدرامية، بل كانت في عالم الشعر، وبالفعل له ثلاثة دواوين، ولكنه هجر الشعر وانصرف عنه، وصرف معه كل قواه الذهنية والوجدانية إلى الكتابة الدرامية، فتميز فيها كما تميز في الشعر من قبلها.

ورغم أن هذا الانقلاب الأدبي جاء على حين غِرة من الأديب، حتى قال الدكتور في سيرته الذاتية الماتِعة الشاهد والمشهود أن الكتابة الدرامية جاءته تُجَرجِر أذيالها بلا دعوة أو معاد مضروب، إلا أن فكرة جوهرية كانت قابعة في أعماق نفسه تدفعه إلى الكتابة الدرامية، التاريخية منها بالذات، وكانت تصبغ أعماله كلها بلون واحد ومزاج سائد: كان الدكتور وليد ذا وعي تاريخي عميق، يؤمن بأن التاريخ وحدة واحدة، وأن الماضي لا ينفصل عن الحاضر، ولا يستقل الحاضر عن الماضي، بل يعمل كل منهما في الآخر. وكان يرى أن مصائر الأفراد مُتراتِبة، فمصير الناس في الحاضر يتشكل مُعتمدًا على مصائر أسلافهم. فيقول مثلا في الشاهد والمشهود: (ولئن علمتني المعالجة الدرامية شيئًا، فهو أن مصير الفرد كائنًا من كان، تُسهم في تشكيله مصائر البشر جميعًا، سابقهم وحاضرهم!) كانت هذه الفكرة، التي تُذيب الماضي والحاضر في بوتقة واحدة، هي الفكرة الجوهرية التي صدرت عنها دراما الدكتور وليد سيف، وكانت الروح التي دبّت في كل أعماله التاريخية وحركت فيها نفس الحياة، وجعلتها قريبة من المشاهد وقابلة للاسقاط على واقعه وحاضره.

 

الحاضر يشيد الماضي

تأثر الدكتور وليد بالفلسفة الظاهراتية phenomenology، التي تجعل الواقع غير معصوم من الوعي البشري الذي يتعاطى معه، بل يتغير الواقع ويتفاعل مع الوعي تفاعلًا حيويًا مستمرًا. فالواقع في نظر الظاهراتيين ليس مجرد صنم جامد لا يتحرك ولا يتغير، والوعي ليس مجرد لوحة بيضاء تستقبل مُدرَكات الواقع بموضوعية وحياد. إذن فعلاقة الوعي بالواقع علاقة حيوية جدلية، يتأثر فيها كلا الطرفين بالآخر ويؤثر فيه.

لعل هذه العلاقة المُحتدِمة شغلت فكر الدكتور وليد وأهمته كثيرًا، حتى أنه سمى سيرته الذاتية تَيَمُّنًا بطرفي هذه العلاقة، فـالشاهد والمشهود – كالمُدرِك والمُدرَك – هي مسميات أخرى للوعي والواقع.

ومن هنا كان الرجل يؤمن بأننا حين نستذكر أحداث الماضي، فنحن لا نستذكرها بموضوعية، ولا نستذكرها كما كانت عليه في واقع الأمر، بل نُلقي عليها من وحي ذواتنا وحاضرنا. وبذلك فإن الحاضر يعيد تشكيل الماضي، ويشيده من جديد بعد أن سقاه من مشاعرنا وأفكارنا وخبراتنا التي اكتسبناها وشكّلنا بها وعينا.

يقول الدكتور وليد: والفارق بين واقع الماضي وشهادة الحاضرعليه ليس فارقا بين الصدق والكذب أو بين الحقيقة والوهم، وإنما هو فارق بين واقع خارجي لا معنى له خارج وعينا به، وبين واقع الصورة الذهنية التي يشيدها وعينا، فيراها ويرى بها.

ليس من العجيب إذًا أن تشاهد مسلسل التغريبة الفلسطينية، فتشعر أنك تعيد قراءة السيرة الذاتية للدكتور وليد سيف، وتشعر أن شخصيات المسلسل مستوحاة من شخصيات حقيقية عايشها الدكتور وليد، وتجد بعض هذه الشخصيات موجودة بأسمائها الحقيقية، بل تجد فيها آثارًا وبصمات من شخصيته منثورة في أنحاء المسلسل بين شخصياته وأحداثه.

وليس من العجيب أيضًا أن تشاهد مسلسل صلاح الدين، وتتحرك مشاعرك لتلك العلاقة المؤثرة بين صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه، ثم تعلم أنها وإن كانت مما حُكِي عنهما في التاريخ فعلا، إلا أن الدكتور وليد لم يتعامل مع هذه العلاقة بموضوعية، ولم يروها لنا كما قرأها في التاريخ، بل رواها لنا في ضوء وعيه وخبرته ومشاعره، وفي ضوء علاقته مع عمه الذي كانت تجمعه به محبة شديدة، كما قال في الشاهد والمشهود.

 

سعي لا ينتهي

يقول الدكتور وليد: يبدو أنه من طبيعة الشرط الإنساني أن تبقى السعادة الكاملة والرضا التام أفقًا يسعى إليه الإنسان، فلا هو يبلغه ولا هو يرضى بدونه.

ثم يكمل: في مرحلة من العمر تحدد طموحاتك وغاياتك، وتصوغ آمالك وأحلامك، ثم إذا كنت محظوظًا وبلغتها، برزت لك منغصات وتحديات جديدة، ونشأت لك مطالب وغايات جديدة. فكأن تحقيق غاية ما؛ يخلق شرط الإمكان لتخليق غاية أو غايات أخرى، دونها عوائق وتحديات من نوع مختلف.

انعكست هذه الفكرة بصورة شديدة الوضوح في دراما الدكتور وليد، ووصلت ذروتها في المسلسلين صقر قريش وربيع قرطبة. فما يلبث عبد الرحمن الداخل أن يبلغ غايته بعد سعي طويل مرير، ويُشيّد مُلك آبائه الأمويين في الأندلس بعد أن أسقطته المُسوِّدة العباسية في المشرق، حتى إذا فرح الرجل بنصره وفرحنا معه، فاجأتنا المُنغّصات والتحديات وسرقت منه ومنا فرحة النصر. فها هو يعزل خادمه بدر بعد بلائه معه، ويضطر لقتل ابن أخيه بعد أن تآمر عليه مع أعدائه.

وكذلك المنصور ابن أبي عامر المعافري، الذي عَافَرَ ظروفه المتواضعة بهمته الشامخة، وكابر تلك الظروف ولم يرضَ بها، فصعد من القاع حتى تَسنّم قمة المجد.

ولكن نيل المجد والوصول للغاية لا يعني أن السعي قد انتهى، ولا يعني أن الحياة ستصفوا لابن أبي عامر، ولن تظهر له غايات وآمال جديدة، ولن يجابه تحديات وليدة. فأين بنو عمه ورفقاء دربه الذين بدأوا الطريق معه، ثم لم يصل إلى النهاية إلا وقد تلاشوا من حوله واحدًا واحدًا.

 

سُنّة الحكم والسياسة

تُصور لنا الثلاثية الأندلسية كيف يغير المُلك طباع الإنسان، وكيف تضطره إملاءات السياسة إلى التخلي عن مبادئه التي لازمته طوال سعيه، وكيف يتنكر لمن رافقه في دربه وشهد معه الصعاب والشدائد.

وعبد الرحمن الداخل بعد أن وَطّد ملكه في الإندلس ليس هو عبدالرحمن بن معاوية ذاك الأمير الشارد كثير الصمت والوجوم الذي فرّ من العباسيين وجاب الصحراء وخاض البحر وحيدًا مع خادمه بدر.

والمنصور ابن أي عامر الذي لم يُقنِعه منصب الحجابة، فاستأثر بأمور الحُكم بعد أن أقصى الخليفة المؤيد بالله وحجبه عن الناس، ليس هو ذاك الشاب النقي الطموح الذي رأيناه يُغادر الجزيرة الخضراء إلى قرطبة مع ابنيْ عمه، طالبًا مجد آبائه الضائع.

وملك إشبيلية المعتمد ابن عباد الذي قتل صاحبه وخليله ووزيره الأول ابن عمار بيديه، ليس هو الأمير الخفيض اللين الذي أخذ على نفسه العهد ألا يكرر سنة أبيه المعتضد، وألا يري الناس ما أراهم أبوه من الظلم والطغيان.

كل أولئك نالوا نصيبهم من تغير الطباع والتخلي عن المبادئ بقدر نصيبهم من الملك والسلطان، وكلهم تطبّعوا بطباع الملك وغمرتهم صفاته وغلبت على صفاتهم، كأن المُلك قالب ثابت لا يلبث من دخله إلا أن يتشكل على شكله ويصبح على هيأته وصورته.

وننطلق من هنا لسُنة أخرى من سنن الحكم والسياسة، وهي أن الطغاة أصل الغُزاة، وأن الظلم يُضعف الدول ويُمهد لضياعها.

في مسلسل ملوك الطوائف، نرى كيف يمهد ملوك الأندلس الطريق لألفونسو السادس لانتزاع ممالكهم منهم، وكيف يجعل طغيانهم وبطشهم برعاياهم وتصارعهم على مصالحهم ممالك الأندلس لقمة سائغة في فم المغتصب الغازي.

 

ختامًا

لم أستوعب هنا كل الأفكار والجوانب الفلسفية لأعمال الدكتور وليد سيف، ولا يمكنني ذلك في مقالة صغيرة، ولم أتناول مسلسل عمر الذي هو غاية في الإتقان الأدبي والفني والإخراجي. وبالرغم من أني لا أنكر دور قلم الدكتور وليد في ظهور مسلسل عمر على هيأته تلك، وأحمد الله على أنه هو الذي كتبه، فلم يُسمعنا لفظًا غريبًا أو تعبيرًا مُستهجَنا لا يوافق اللغة السائدة في تلك العصور، وبث إلينا الكثير من المعاني الطيبة والقيم الإسلامية السمحة. ومع ذلك، فقد كان حضوره في مسلسل عمر أقل من حضوره في أعماله الأخرى، وكانت المساحة المتاحة لقلمه وحسه الأدبي أضيق نظرًا للاهتمام الكبير الذي أولاه المسلمون لتلك الحقبة التاريخية، والجهد الذي بذله الأخباريون والمحققون في نقل أحداثها بتفاصيلها الدقيقة.

وكما ذكرنا من قبل أن أعمال الدكتور وليد مشبعة بالفلسفة ومحملة بتأملات الكاتب وتصوراته عن الوجود والتاريخ والسياسة والدين والحب وغيرها. وإن أردت التعرف على فكر الدكتور وليد سيف، فأنصحك بسيرته الذاتية الشاهد والمشهود فهي مليئة بالمراجعات الفكرية والسِّجَالات النقدية الموزونة، فضلًا عن قيمتها الأدبية والفنية الكبيرة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

دراما, فلسفة

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد