عندما سقطت الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ارتبكت الشعوب والأنظمة التي شكلت أجزاء الإمبراطورية الإسلامية، حتى الدول والأنظمة التي ظلت تقاوم الخلافة ارتبكت هي الأخرى: بأية شرعية إذن يحكمون؟ انتهت الولايات عن الخلافة، وحلت الدول/الدويلات القومية محلها كيفما استقر سايكس وبيكو.
مفهوم الدولة الوطنية لم يستقر بعد، وظلت فكرة الخلافة هاجعة في الوعي – وربما اللاوعي أيضًا – لدى حكام الدول الناشئة، الجميع طمع في أن يكون الوريث الشرعي لدولة المسلمين، فؤاد الأول أرادها في مصر والسودان، بحيث يكون الأزهر قلعتها، الشريف حسين بن علي وابنه فيصل، راودهما الحلم في تكوين خلافة جديدة تضم الشام والعراق والحجاز، بعدما أشعلوا الثورة العربية ضد الأستانة، آل سعود وآل رشيد يتقاتلون على دولة الحجاز والجزيرة العربية بمباركة جماعة دينية ناشئة، قيام المملكة المتوكلية الثيوقراطية في اليمن بقيادة الإمام يحيى حميد الدين، لكن المدهش أنهم أجمع طلبوا العون الأوروبي الاستعماري لتحقيق مرادهم!
انفض غبار الحرب العالمية الثانية، وترنحت معها أنظمة سايكس بيكو، وجاءت الجيوش لتحكم بأنظمتها القومية من خلال مشروع هوية خلاصي، وليس من خلال آلية سياسية – على حد وصف أحد المعلقين – وحسب منظورهم، فذلك كفيل بإعطائهم الشرعية السياسية، لكن الهزيمة أمام إسرائيل، وفقدان الأراضي مجددًا، جعل الجميع يفتش في الدين مرة أخرى، سواء من قِبل الجماهير التي تبحث عن سبب للإخفاق والهزائم أو من قِبل الأنظمة التي تريد أن تواري سوآتها.
الغطاء الديني التي تسترت وراءه أنظمة الحكم العربية العاجزة عن قيام دول قومية قوية بالمفهوم الحديث خلفًا للولايات/المُستعمرَات هو الذي أثار الصحوات الدينية وأصحاب مشاريع الإسلام السياسي من قمقمهم، واستدعاهم لساحة السياسة طالما أن الدين سيحكُم، الساحة فُتحت للجميع وللآخر، الجميع إذن يستطيع أن يقدم مشروعه للحُكم باسم الدين.
غياب دولة المواطنة وحكوماتها التى تحكم عبر آليات الديمقراطية وتعاقب الحكومات، بالإضافة إلى تهافت الشرعيات السياسية، والوعود الخلاصية التي طرحتها الأنظمة في مواجهة شعوبهم، من: اشتراكية، وقومية، والحرب، والسلام، والممانعة … إلخ، أوعز إليهم الاحتماء فورًا بشرعية دينية تنجّيهم، وقد استمدوها من نسب شريف، أو من سند مؤسسة دينية تاريخية أو مباركة مرجعية دينية؛ فالمحصلة أن لدينا أنظمة تحكم بتفويض ديني – ربما إلهي – في حين لم تنته ثرثرتها عن الديمقراطية ودولة المواطنة.
الرايات الدينية التي رفعتها أنظمة الحكم – سواء عن عمد أو بإيعاز خارجي – في منطقة الارتطام الجيوسياسي، المسماة بالشرق الأوسط، كانت الشعلة التي أضاءت الطريق للجهاد الإسلامي وداعش في خوض معاركهم في الأرض المناسبة. فلتتخيل منطقة بها المشروع السني الوهابي السعودي، والمشروع العثماني التركي الجديد، والهلال الشيعي الإيراني بأذرعته الممتدة في العواصم العربية، مشروع الإسلام المعتدل الذي تمثله مصر عبر قلعة الأزهر، مشروع الإخوان المسلمين الممتد بطول العالم العربي!
إذن هي حرب/منافسة على قيادة الإسلام، الكل يضمر فكرة الخلافة، دون إعلانها، لكن سرعان ما ظهر المنافس الصريح للخلافة؛ فتجلىَ ما هو خفيّ. الجميع أعلن الحرب على داعش من باب الدين، شعارات الحرب توضح أنها حرب مقدسة، مواجهة الإرهاب الديني، معركة الإسلام الوسطي المعتدل، مواجهة التكفيريين … لم يعلنوا حرب الدولة والمؤسسات، حرب دولة المواطنة، حرب الديمقراطية، حتى عندما قرر البعض مواجهة جماعة الإخوان، وجهوا إلى الجماعة الاتهام الشعبوي على أنها جماعة خارجة عن صحيح الدين.
كان من الممكن تقبل داعش منافسًا جديدًا هو الآخر على الخلافة، لكنه تخطى قواعد الصراع، وأباح بما هو مضمر وغامض؛ فتوجب مقاومته؛ لأنه هدد الكراسي السلطانية القائمة، ولأنهم يمارسون داعشيتهم المحلية بلا مواربة؛ فأعلنوا الحرب ضد داعش بصراخ الدين/الجهاد أيضًا، وليس نداء دولة المواطنة المهددة من قِبل عدوها الراديكالي.
كل حدث إرهابي ينفجر بمثابة لغم جديد وُضع فى قائمة الانتظار لحين ساعة الصفر، وحصد الأرض التي غُرس فيها، إنها البدايات، وليست النهايات، فهي حرب طويلة، وستطول؛ لأن مجالها ليس الجغرافيا فقط، والشعوب المشاركة لا تدري أين تحارب، والعدو غير معلوم بعد، الأمر مربك لهم، خاصة حينما يحارب أعداء الأمس بجوارهم اليوم.
يبقى بالأخير أن تتساءل الشعوب المحاربة: لماذا تواجد داعش في منطقتهم، ولم يذهب ناحية مجتمعات إسلامية مجاورة أيضًا في الهند أو ماليزيا أو إندونسيا مثلًا؟ هل لم توجه لداعش دعوة الحضور؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست