يعتبر هنري كيسنجر أحد أشهر وزراء الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وصانع سياستها الدولية في فترة السبعينات وأحد الأسماء العملاقة في السلك الدبلوماسي العالمي، وداهية في العلاقات الدولية. فقد عايش أحداث هامة في فترة توليه لقيادة الدبلوماسية الأمريكية في العالم أبرزها الصراع مع الاتحاد السوفيتي على النفوذ السياسي والعسكري العالمي، والصراع العربي الإسرائيلي، ومنها حرب أكتوبر عام 1973 بين مصر وإسرائيل. وقطع السعودية إمداداتها من النفط والغاز للولايات المتحدة وأوربا دعمًا لمصر في مواجهة دعم غربي للإسرائيل؛ ما تسبب في أزمة بترولية واقتصادية للغرب في ذلك الوقت، ومواكبة هنري كيسنجر لجهود وقف الحرب ومفاوضات بين الجانبين المصري والإسرائيلي التي أدت في نهاية المطاف إلى أول اتفاق سلام بين دولة عربية وإسرائيل عام 1978. وجهوده أيضًا في إنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام، وارتباط اسمه بسياسات مثيرة للجدل، مثل دعم الولايات المتحدة للأحد أشهر الانقلابات في التاريخ الحديث في أمريكا اللاتينية «انقلاب تشيلي» بقيادة أحد أشهر الديكتاتوريين العسكريين في العصر الحديث الجنرال أغوستو بينوشيه عام 1973. ولكسينجر عدة كتب ومؤلفات في السياسة الدبلوماسية والعلاقات الدولية فمن مقولاته الشهيرة التي تبين جانبًا كبيرًا من سياسة الولايات المتحدة حيث يقول: «إن مهمة أمريكا ليس حل الأزمات الدولية في المقام الأول، بل التحكم فيها وفي زمام أمورها وخيوطها الدولية المعقدة والتلاعب بها، وذلك لخدمة المصالح الإستراتيجية والسياسات العليا للولايات المتحدة الأمريكية»، وهو نفس الكلام الذي قاله باراك أوباما الرئيس الأسبق للولايات المتحدة في كتابه الصادر مؤخرًا تحت عنوان «أرض موعودة» حيث انتقد هذه السياسة وقال: «إن الولايات المتحدة أسست قواعد خاطئة لعلاقاتها مع الدول النامية طيلة مرحلة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. فقد تم النظر إلى الآمال الوطنية لهاته الدول على أنها مؤامرات شيوعية، وتم الخلط بين المصالح الاقتصادية للأمريكا وأمنها القومي، وضربنا حكومات منتخبة ديمقراطيًا ووقفنا في صف الديكتاتوريات في كل مرة كنا نرى فيها مصالحنا». نهاية الاقتباس من كتاب «أرض موعودة».
ويبدو أن هذه السياسة لم تعد مقتصرة على الولايات المتحدة، بل إن عدة دول أصبحت تتبعها ولم تعد حكرًا على واشنطن فحسب، ففي ظل استفحال الأزمات والصراعات، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة في ظل التطورات التي أعقبت ما سمي «بالربيع العربي» وظهور لاعبين جدد في الساحة الدولية. وتوسع النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي لعدد من الدول والقوى الإقليمية والدولية الجديدة منها روسيا، وإيران، والصين، وتركيا، في منطقة الشرق الأوسط والخليج وأفريقيا.
العملاق الصيني: صراع اقتصادي مع الغرب وتنافس على التجارة العالمية
بعد أن كانت الصين تعيش أزمات اقتصادية ومجاعات خلال فترة الحروب العالمية الأولى والثانية؛ ما اضطرهم إلى تناول وأكل أنواع غريبة من الحيوانات، وإقامة أسواق خاصة بها، وهو ما يفسر بعض العادات الغريبة للصينيين وبعض الشعوب الآسيوية وولعهم بالتهام حيوانات مثيرة للاشمئزاز، هاته العادة التي بقيت معهم إلى اليوم، رغم التغير التراجيدي الهائل اليوم حيث أصبحت الصين التي كانت تعاني قبل عقود أصبحت أكبر قوة اقتصادية في العالم ومنافسة للأمريكا حيث باتت تتوسع الصين في قدراتها ونفوذها الاقتصادي، خصوصًا في الدول النامية ودول العالم الثالث وفي قارات آسيا وأفريقيا. بعد أن آمن الصينيون بإمكاناتهم وقدراتهم في التقدم الاقتصادي واستغلالهم لأهم ثروة لأي دولة في العالم، وهي «الثروة البشرية» الهائلة التي تمتاز بها بلاد التنين أكثر من مليار ونصف مليون نسمة» عدد سكان الصين الشعبية. وذلك من خلال تطوير «التعليم» و»الصناعة»، وهما الركيزتان الأساسيتان اللتان اعتمد عليها حكام الصين للتقدم والتطور الاقتصادي والعمراني، وتنمية مهارات المواطن الصيني، والايمان بقدراته، وقد عملت الصين على إعادة أمجادها القديمة في الممرات التجارية العالمية أو ما تسميه «بطريق الحرير»، وهي الطرق التي كانت تسلكها القوافل التجارية في عصور خلت لنقل البضائع والسلع من وإلى الصين وتربط بين الشرق والغرب. حيث تعمل اليوم الحكومة الصينية على إحيائه مرة أخرى عن طريق إقامة استثمارات اقتصادية وتطوير البنية التحتية لمناطق التي تقع اطار «مبادرة الحزام والطريق» والتي تم اطلاقها من قبل الرئيس الصيني سنة 2013، وتهدف إلى إنهاء هذا المشروع الضخم عام 2049، بالتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد استثمرت وطورت الصين بفعل مليارات دولارات في دول جنوب آسيا وبعض الدول الأفريقية لتطوير البنية التحتية والموانئ البحرية. ويعتبر خبراء اقتصاديون أن هذه المبادرة هي من أكبر مبادرات اقتصادية والتجارية في التاريخ العالمي، حيث سيشمل هدا المشروع الضخم أكثر من 68 دولة وهو ما يقارب حسب المراقبين %65 من سكان العالم وسيربط تجاريًا قارات العالم كل من أفريقيا وأسيا وأوربا ويجعل الصين تتحكم في نصف التجارة والاقتصاد العالميين ويوسع نفوذها بشكل مذهل أكثر من أي وقت مضى لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر القطب الأوحد المتحكم في العالم مند سقوط المنافس القديم لها الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي. هدا الصعود الصيني الدي يقلق العالم الغربي بشكل كبير وينال انتقادات واسعة من قبلهم باعتباره مهددًا لنفوذهم السياسي والاقتصادي في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، خصوصًا في السنوات الأخيرة بعد إبرامها للاتفاقيات وعقود تجارية للتبادل الحر مع عدد من الدول النامية وإغراق السوق بالسلع الصينية وافتتاح مشاريع واستثمار في مناطق ومدن صناعية كبرى في عدد من الدول الأفريقية كما هو موضح في الخريطة أدناه؛ ما أدى إلى فرض سياسات عقابية من قبل واشنطن وحلفائها تجاه الصين من طرف الإدارة الأمريكية السابقة تحت قيادة دونالد ترامب وخوضه حربًا تجارية مع بكين بفرض قيود على الواردات الصينية ورفع الرسوم الجمركية تجاه منتجاتها كالصلب والحديد، والحد من انتشار شركات صينية عملاقة كشركة المنتجة للهواتف الذكية «هواوي» التي بلغت مبيعاتها أرقامًا قياسية في السوق العالمي متجاوزة شركات كبيرة منافسة لها وسبقتها في السوق الدولي قبلها بسنوات عدة وانتشارًا واسعًا في العالم، منها شركة «أبل» الأمريكية و«سامسونج» الكورية. ومنع التطبيق الصيني المعروف «تيك توك» في أمريكا بحجة اختراقه لخصوصية مستخدميه. وقيام عدد من الدول الأوربية بمنع استخدام تقنية الجيل الخامس من الإنترنت «5G» من قبل شركة «هواوي» وتسويقها والترويج لها.
تركيا وروسيا: تنافس محتدم مقابل التنين الصيني والمستعمر السابق الفرنسي
عاشت القارة الأفريقية التي تزخر بالثروات الطبيعية الضخمة والمعادن النفيسة الهائلة «كالذهب والنحاس والفضة والحديد والزنك والحديد…» عاشت لعقود طويلة تحت الاستعمار الغربي وتقاسم النفود بين فرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وألمانيا، وبلجيكا، والبرتغال، استغلالًا ونهبًا لخيراتها، لدرجة العبودية في العديد من الدول الأفريقية، واعتبارهم عبيدًا «للمستعمر الأبيض» إذا صح القول في عنصرية فجة ومقززة وغير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وارتكاب عدد من المذابح والإبادات الجماعية في حق شعوب منها: رواندا، والكونغو، وكينيا، والجزائر، وغيرها من الأمم الأفريقية، وهي أمور جعلت مشاكل منها: الفقر، والفساد، ينتشران بشكل كبير داخل هاته المجتمعات، الأمر الذي استغلته دول وقوى عالمية منها الصين، وروسيا، وتركيا، لمزاحمة النفوذ الأوروبي، وعلى وجه الخصوص الفرنسي، وكراهيته بسبب الماضي المظلم التي تكنه الشعوب للمستعمر السابق، وذلك بإقامتها لعلاقات دبلوماسية واقتصادية وإنشاء شركات ومصانع وتوسيع استثماراتها لتطوير اقتصاديات الضعيفة للدول الافريقية أو اقامتها لقواعد عسكرية كما تفعل روسيا وتوقيعها للاتفاق للتعاون العسكري مع الحكومة السودانية مؤخرا وربما انشاء قاعدة عسكرية لها في السودان وتواجدها العسكري في أفريقيا الوسطى و«مرتزقتها فاغنر» وهي شركة أمنية روسية في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر. وبدخول لاعب جديد على الساحة الإقليمية والأفريقية خاصة، ألا وهي تركيا، التي تقوم في السنوات الأخيرة بالاستثمار في إرثها القديم المثمتل في «الخلافة العثمانية» وعلاقاتها القديمة مع شعوب هده المنطقة وارتباطهم الديني معها، والتي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من القارة الأفريقية، وخصوصًا المسلمين، وذلك بعد صعود حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، المتأثر بالتاريخ القديم للعثمانيين أيديولوجيا للسلطة عام 2002؛ ما جعله يطور علاقاته الدبلوماسية والاقتصادية بالقارة الأفريقية وتوقيع عدد من اتفاقيات التجارة الحرة لتصبح أفريقيا سوقًا كبيرًا مستوردًا ومستهلكًا للمنتجات التركية في منافسة لنظيراتها الفرنسية، أو الصينية، أو الروسية، والأوربية بشكل عام. فضلًا عن مؤسسات وجمعيات خيرية تركية تقدم مساعدات لدول تعيش مجاعات وأزمات صحية وإنسانية في إطار صراع على النفود والهيمنة مقابل منظمات دولية أخرى تابعة لدول أوربية أو مرتبطة بالأمم المتحدة وغيرها من الدول، وتمركز تركيا بقواعد عسكرية في الصومال، وليبيا، والنيجر، وجيبوتي، وتدخلها وتدريبها عسكريًا لدعم حكومة الوفاق الليبية وقواتها ضد الجنرال الليبي خليفة حفتر وتطويرها للجيش الصومالي وتجهيزه بالمعدات العسكرية وهو ما يفسر الخلافات والمشادات الكلامية الحادة بين الرئيسين التركي والفرنسي والأزمة بين البلدين في إطار صراع نفود سياسي وعسكري على الأرض.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست