«مصعب عبد الفتاح الجندلي» إنه ليس اسمًا لمتطرف في صفوف داعش وإن كانت ظروف ولادته تجعل منه مرشحًا قويًّا لذلك لو تغير عاملين فقط هما أن يولد في المنطقة العربية ولأم مسلمة. لكن لا أعرف إن كان لحسن طالعه أم  لحسن طالع مستقبل التكنولوجيا في أمريكا والعالم ألا يحدث هذا، فقد جاءت ولادة «مصعب» في الولايات المتحدة الأمريكية لأب سوري الأصل «عبد الفتاح الجندلي» وأم أمريكية «جوان شبيل» وقاموا بعرضه للتبني. تقدمت عائلة «جوبز» ضمن العائلات الراغبة لتبني الطفل وحصلت عليه بعد انتهاء الإجراءات وغيرت اسمه وأصبح الاسم الجديد لمصعب هو «ستيف» وعاش «ستيف» مع عائلته الجديدة في «وادي السليكون» بولاية كاليفورنيا. وأصبح «مصعب عبد الفتاح الجندلي» بعد سنوات من الشغف في مجال الإلكترونيات هو «ستيف جوبز» عبقري التقنية الحديثة ومؤسس ورئيس مجلس إدارة الشركة الأشهر «آبل» كما أصبح لاحقًا عضوًا في مجلس إدارة شركة والت ديزني «بكسار» ليصبح أشهر طفل متبنى غير وجه العالم بإبداعاته في عالم أجهزة المحمول الذكية والكمبيوتر، وتعد شركته «آبل» والتي بلغت ميزانيتها في 2018 تريليون دولار أول شركة أمريكية تبلغ ميزانيتها هذا الرقم وهو ما يعادل ميزانية عشرات الدول مجتمعة.

ماذا لو كانت ولادة «مصعب» لأم عربية في دولة مسلمة! بالرغم مما عبر عنه «ستيف جوبز» من ألم طيلة حياته بسبب إحساسه بتخلي والديه عنه، لكني على يقين أن ليس لديه أدنى فكرة ماذا يعني أن تكون والدته مسلمة أو أن يشقى بدين أبيه وثقافته «الإسلامية» التي تحرم التبني أو أن يكون محل ولادته دولة عربية بدلا من الولايات المتحدة الأمريكية، لا يعرف أن مصيره سوف يكون إحدى دور الرعاية المعسرة، وأنه إذا بلغ من العمر الثامنة عشر كان سيواجه تخليًا من نوع جديد وتلقيه دار الرعاية في متاهات الطرق ليفسح المكان لطفل بائس آخر حكمت عليه ظروف ولادته باليتم في الدول الإسلامية.

كنت في طفولتي في مصر أعهد صديقا لوالدي يرعى وزوجته طفلة صغيرة ليست ابنه لهم. كانوا يقولون إنها ابنة أحد الأقارب الذي توفاه الله وتركها دون عائل سواهم. وكان أيضًا لدينا جارة خمسينية وزوجها الذي يكبرها ربما بعقد كامل يعيشان وحيدين حتى ظهرت معهم طفلة لم نرها إلا وهي ذات السنتين أو الثلاث كانوا يقولون إنها ابنتهم. لم أقف حينها عند حقيقة علاقة تلك العائلات بالأطفال الذين يرعونهم حتى عرفت أن الدين الإسلامي يحرم التبني، وبدأت أشعر أن هؤلاء النبلاء الذين أشرت إليهم يخفون وراءهم سرًا ما خشية نظرة المجتمع المسلم المستنكر للتبني.

ولاحقًا عندما أصبحت متابعة جيدة لذلك الشيخ ذائع الصيت سمعته يقول إن هناك شقين في حكمة تشريع تحريم التبني. أولًا أن ذلك يعتبر خلطا للأنساب ثم استفاض في شرح حرص الإسلام على حماية الأنساب.

  لكن قبل أن أسترسل للشق الثاني، يتعين علينا معرفة موقف الشرع من نسب الأطفال إلى «الآباء البيولوجيين» حرصًا على حماية الأنساب من الاختلاط بمراجعة الآراء الفقهية المتعلقة بنسب ولد الزنا أو حالات الاغتصاب:

أولًا: ولد الزنا ينسب لأمه إذا كانت غير متزوجة، وينسب للزوج إذا كانت متزوجة حتى ولو بلغ القطع بأن هذا الولد من الزنا.

ثانيًا: لا ينسب ولد الاغتصاب للمغتصب وإنما ينسب للأم.

ولما كانت قضايا النسب يتبعها كثير من الأحكام كالحضانة والولاية والميراث وغيرها من القضايا الدينية، يتبين لنا أن الفقه لم يجد أي غضاضة في هذا الخلل وأقر بخلط الأنساب في تلك الحالات ليس هذا فقط، بل أقر بنجاة الزاني والمغتصب من أي عقاب أو مسئولية دنيوية في التشريع الديني! وعلى ذلك يتضح أن دعوى تحريم التبني حرصا على منع اختلاط الأنساب هي محض رياء.

ثم جنح الشيخ إلى الشق الثاني جنوحا أعوج وقال إن هؤلاء الأطفال يحسبون من الغرباء على أهل البيت ويحلون لهم شرعًا، وأن الفقه يقصر مسئولية المجتمع تجاه هؤلاء الأبرياء على كفالتهم ماديًا في دور الرعاية درأ للمفاسد. مما جعلني حينها أعتبر ذلك الجار الفاضل الذي رعى بنات أخيه وسط أبنائه من الإناث والذكور على السواء بعد وفاة أخيه وزوجته في حادث سيارة يرتكب إثما عظيما! فكان من الأجدر به أن يودع بنات أخيه دور رعاية درأ للمفاسد على حد تعبير الشيخ الفقيه.

ثم ساورتني بعض الأسئلة البسيطة المشروعة متعلقة بالشق الثاني من حكمة التشريع:

كيف كان يسلك المجتمع المسلم تجاه هؤلاء الأبرياء باعتبار أن دور الرعاية أمر مستحدث لم تشهده تلك المجتمعات؟ أكان يسوقهم إماء وعبيدًا. وهل ذلك أرحم وأجزى عند الله ممن يكرمهم كابن أو بنت للأسرة؟ ولماذا يقف الفقه متجاهلا عمالة الأطفال خاصة الإناث في بيوت الأسر المصرية؟ أم رعايتهم حرام واستعبادهم حل لنا. ولماذا يحرم الفقه على من حرم نعمة الإنجاب أن يجد له نصيبا من بهجة الحياة؟ وكيف يتصور الفقه أن يتحول شعور من نمت في وجدانهم مشاعر الأمومة والأبوة والأخوة سنوات أن تمسي رغبات جنسية إلا أن تكون نفوسًا عطبة لا يمنعها شيء من ارتكاب الرذيلة؟ وما ظن الفقه بالعلاقات التي تحدث بين المراهقين خلف أسوار دور الرعاية فهل يظنون أن دور الرعاية خير من دفء العائلة؟ وماذا عن الذكور الذين تطلقهم دور الرعاية في جنبات الطرق دون مأوى عند بلوغهم الثامنة عشر؟ وهل يظن الفقه أن البشر حيوانات أليفة تكفيها أبسط أمور الرعاية من مأكل ومشرب لتصبح عضوًا صالحًا في المجتمع؟ ألا يعترف الفقه أن الإنسان لديه طاقة هائلة إن لم توظف وتستثمر في الجوانب الإيجابية تحولت إلى وبال يحيق بالمجتمع.

وقد صادفني منذ فترة خبر عن منظمة اليونيسف في سنة 2017 (وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة تعمل في إغاثة الأطفال حول العالم) تعلن أن عدد أطفال الشوارع في مصر قد بلغ 2 مليون طفل وهو رقم هائل يقترب مما صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ويشمل هذا الرقم ثلاث فئات من الأطفال تحت سن 18 سنة. هم المتسولون الذين يقطنون الشارع أو الذين يعملون في الورش والمصانع أو هؤلاء الذين يعيشون مع أسرهم في الشارع.

وإذ يتعدى إجمالي التعداد السكاني لجمهورية مصر العربية مئة مليون نسمة منهم حوالي 40% من الأطفال تحت سن 18 سنة ما يعنى أن حوالي 5% (5 أطفال من بين كل مئة طفل) من مستقبل مصر بلا مأوى يفترش الشارع ويسلك العشوائية ويشقى بالفقر والجهل.

ما كان لي من بد حين قرأت ذلك الخبر الفاجعة إلا أن ألقي بمسئولية هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة التي تهدد أمن وسلامة ومستقبل مصر إلا للفقه الديني الذي تراكم على كواهلنا يطل برأسه في كل مشكلة اجتماعيه نواجهها. وقادني ذلك للبحث في مرجعية تلك الفتوى المريبة التي تحرم التبني في حين أن فقههم لم يلق بالًا للرق الذي لولا أن حظرته الأمم المتحدة في سبتمبر سنة 1926 لكان يمارس حتى يومنا هذا في الدول الإسلامية دون أن يطرف لنا جفن.

كانت قصة «زيد بن حارثة» الذي اتخذه النبي ابنًا له هي مرجع الفتوى. في قصة «زيد» لم يحدث أن تخلى الأب عن ولده، ولكن فرقه عنه أسر الطفل في إحدى الغارات وبيعه في سوق الرقيق وعندما عثر أبو زيد على ابنه أراد الأب أن يستعيده، لكن الابن اختار أن يبقى بجوار النبي هنا دعاه «زيد بن محمد» فنزلت الآية في سورة الأحزاب:

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ، وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا». (5)

وأيضا الآية «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ، وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا». (40)

إن قصة «زيد بن حارثة» بها الكثير من الملابسات التي تجعل منها حالة خاصة لا يصح أن تكون سببًا في تشريد الآلاف، بل الملايين من أبناء المجتمع المسلم على هذا النحو وأن الأساس فيها أن الله لم يرد للنبي أن يكون له أبناء ذكور لحكمة عنده.

وعلى كل لست هنا بصدد مناقشة الأمر من الناحية الفقهية وكذلك خطابي اليوم غير موجه للأزهر بأي حال فقد أدرك بالفعل خطأه وما أحلته فتواه بالمجتمع من ضرر وإضرار وبدأت جهوده تتضافر مع وزارة التضامن الاجتماعي لاختيار عائلات مناسبة للأطفال الأيتام من خلال بعض الحملات التي تدعو للتبني كحملة «احتضان» و«يلا كفالة». وبالمناسبة هذه الحملات مرادف مطابق للتبني تمامًا. فالطفل يحمل لقب العائلة ويعيش معها تحت سقف واحد وتصرح العائلات للمجتمع والأطفال على السواء بحقيقة علاقتهم دون كذب أو تجميل.

إنني في هذا المقام أخاطب المجتمع المتدين الذي وقر في وجدانه عبر قرون طويلة من الزمن ما بثته هذه المؤسسة العتيقة من أفكار تخاصم الضمير الإنساني ليستيقظ على كارثة تهدد أمنه وسلامته. وأثير تساؤلات مشفقة، إلى متى نرضى بأن يوكل الشأن الاجتماعي لعقليات من العصور المظلمة تفعل بنا ما تشاء بوازع الدين دون دراسة حقيقية للتغيرات الاجتماعية، ونسمح لها أن تضع لنا توليفة من القوانين تذرونا غبارًا في مهب الرياح، إلى متى ننتظر هذه العقليات أن تفيق وتصلح ما أفسدته. أليس فينا رجل رشيد!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد