صمتٌ رهيب يخيم على العالم بأكمله، من أقصاه إلى أقصاه، حيث لم يعد هناك رابط بين البشر والأمم سوى وسائل الاتصال والتواصل التي بين أيدينا، بعد أن أجبر ذلك الوباء المسمى «بفيروس كورونا» البشر على التوقف، بل قام بحبسهم في بيوتهم فلم تعد تنفعهم قوتهم ولا حضارتهم ولا عمرانهم ولا أسلحتهم ولا علمهم ولا تلك التكنولوجيا التي يتفاخرون بها أمام ذلك المخلوق الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة، وكأن الأرض تتهيأ لأمر عظيم، لا يعلمه سوى خالق هذا الكون ومدبره، فماذا لو كانت القيامة؟

لست أتنبأ هنا بأمر غريب على البشر ولم أتِ بشيء عجيب لم يسمعوه من قبل، ولكنهم يؤمنون به بمختلف دياناتهم، ونقرأه نحن المسلمون ليل نهار في كتاب ربنا «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)» سورة القيامة.

فهل ما يحدث في العالم الآن بسبب فجور الإنسان؟ أم أنه يهيئ البشر للساعة؟ أم يا ترى مجرد كابوس وسينتهي وتستمر الأيام بدورانها على هذه البشرية الضعيفة؟ أم أن ما يحدث ما هو إلا إرهاصات لها ومقدمات تنذر البشر بالخطر القادم، وتنبههم لما هو أعظم مما في هذه الدنيا الفانية ألا وهي الآخرة «والآخرة خير وأبقى» الأعلى 17.

تساؤلات كثيرة تكاد تعصف بالذهن وتشق القلب وتزلزل الوجدان من كثرة التفكير فيها، ولم لا وكل العلامات الصغرى أو جلها والتي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها قبيل الساعة قد حدثت؟ ووقعت، ورأيناها رأي العين ونعيشها ونعايشها ليل نهار؟ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ظهور الفتن في كل مكان، وكثرة الكذب وانتشار الزنا، وتقارب الأسواق والزمان وكثرة القتل والدجل والبدع، وعلو الفساد والتعالي في البنيان والحكم بغير ما أنزل الله وإسناد الأمر لغير أهله… إلخ.

فقد روى الإمامان البخاري ومسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى» وهذا يدل على أن بعثة النبي وموته هي أول علامة حدثت لقرب وقوع الساعة. كما روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج قيل: وما الهرج؟ قال: القتل»، انتهى من الحديث، والهرج هنا: تعني كثرة القتل بغير حق وما أكثره في زماننا!

ليس هذا فحسب بل هناك علامة أوضح وأجلى وقعت تدل على قربها الشديد منا، وهو ما ظهر في سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» وقد وقعت الأولى كثيرًا في زمن الفتوحات والثانية نرى فيها الآن تنافسًا كبيرًا بين البشر عامة وعرب الجزيرة العربية خاصة.

إنَّ القيامة واقعة لا محالة، وآتية لا شك في ذلك ولا ريب: «إنّ يوم الفصل كان ميقاتًا» النبأ 17. ولكن السؤال الأهم هو: متى؟ فعليه تتغير مصائر الكون ومستقبل البشر أجمعين، مسلمهم وكافرهم لا فرق بينهم في ذلك، وبما أنها من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله كان لزامًا علينا الرجوع لكتابه وسنة نبيه لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» الأعراف 187.

يكاد عقلي يتوقف عن التفكير كلما تأملت هذه الآية فأتوقف عند ذلك التعبير المفزع «لا تأتيكم إلا بغتة»، فأنظر إلى حالي وتلك النفس الضعيفة الغارقة في الذنوب، وإلى أحوال البشر الذين ألهتهم الدنيا وفتنتهم بما فيها، وأغواهم الشيطان ما بين لاهٍ وضالٍ وعاصٍ وظالمٍ ومذبذبٍ بين الإيمان والمعصية وقابض على الجمر بدينه.. فلا أملك إلا أن ألهج بالتهليل والاستغفار والدعاء بالثبات وحسن الخاتمة في زمن يصبح فيه الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، فاللهم الثبات والجنة.

لذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين واضحة وضوح الشمس في مثل هذه الفتن التي تنذر بالخطر الشديد على كل نفس مهما كان إيمانها، في الحديث الذي رواه مسلمٌ في كتاب الإيمان: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»، فهل نأمن عذاب الله لدرجة تجعلنا في غفلة عن الآخرة وعن هذه الفتن التي تنتشر في الأرض وعن كل تلك الأشراط التي ظهرت وتنذر بقرب القيامة؟ أم ننتظر أن تأتينا بغتة بظهور علامة من علاماتها الكبرى فلا تنفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل؟

لقد بيّنَ لنا النبي صلى الله عليه أنه بظهور علامة واحدة من العلامات الكبرى تبطل التوبة بعدها؟ ولا يقبل من غير المؤمن إيمانُ حتى وإن قضى ليله ونهاره فيه، كما وضح لنا أنه بظهور إحداها تعقبها الساعة بغير مرد ولا مانع، فقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها 10 آيات، فذكر: الدخان، الدجال، الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن نطرد الناس إلى محشرهم».

فإلى الغافلين عن التوبة، والغارقين في المعاصي، إلى اللاهين في الدنيا بأموالهم وتجارتهم وأعمالهم وبساتينهم، إلى المفتونين بلذة العيش وعرض الدنيا الزائل، ثم إلى الظالمين الذين أعماهم ملكهم وسلطانهم، واستكبروا بقوتهم، أفيقوا يرحمكم الله، فلو كانت باقية، لخلد فيها من هو أفضل منا وأعظم، ولكنها الحقيقة المرة التي نهرب منها: «كل من عليها فان» فماذا أعددنا لهذا اليوم؟

وماذا سنفعل إن ظهرت إحدى علامات الساعة الكبرى، ولا سيما أن الأرض تعج بالفتن ويتغير الكون كل يوم بما لا نتوقعه؟ فهل نأمن على أنفسنا؟ أم أن طول الأمل أنسانا قوله تعالى: «بل تؤثرون الحياة الدنيا. والآخرة خير وأبقى» سورة الأعلى. إنه والله لنذير لكل ذي لب سليم وعقل قويم، فهل نعيه أم نغفل عنه حتى تقع الطامة الكبرى ولا ينفع يومئذ الندم، فاحذر وحاسب نفسك دومًا، واسألها عن حالها: كيف أنتِ إن قامت الساعة؟

تالله لا يأمن الفتن والموت والآخرة والحساب إلا من هو طامس القلب وفاقد العقل و أعمى البصر والبصيرة ولم لا؟ والله تعالى يقول في كتابه: «قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى» سورة طه. فاللهَ اللهَ في أنفسنا.. إن لم نستعد لمثل هذا اليوم وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

ففروا إلى الله، فلا نجاة لنا دونه، ولا باب يقبلنا سواه، فلا زالت هناك فرصة للرجوع لمن وعي الأمر وأدرك الخطر الذي يطل برأسه بين كل هذه الفتن، فمهما تمتعنا في هذه الحياة الدنيا فإنا راحلون.

وما أعظم ما قال الإمام علي رضي الله عنه في الدنيا والموت، واصفًا تلك الحقيقة التي نهرب منها إليها من حيث لا نشعر:

النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت

أنّ السلامةَ فيها ترك ما فيها..

لا دار للمرءِ بعد الموتِ يسكنها

إلا الذي كان قبل الموت بانيها..

فإنْ بناها بخيرٍ طابَ مسكنها

وإن بناها بشرٍّ خابِ بانيها..

أينَ الملوكُ التي كانت مُسلطنةً

حتى سقاها بكأس الموت ساقيها..

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهرِ نبنيها..

كم مِنْ مدائنَ في الآفاقِ قد بُنيت

أمستْ خرابًا ودانَ الموتُ دانيها..

لكلِ نفسٍ وإنْ كانتْ على وجلٍ

مِنَ الفتنةِ آمالٌ تُقوّيها..

فالمرءُ يَبسطُها والدهرُ يَقبِضُها

والنّفسُ تنشرها والموتُ يطويها

في الختام لا أملك إلا أن أدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي عن أنس: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك»، غفر الله لي ولكم وعافانا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وجمعنا وإياكم على محبته.. وختم لنا على طاعته.. آمين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

القيامة

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد