إن نسيت ما نسيت لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم الذي كنت ألعب فيه مع بعض أبناء الجيران في بيتهم، وكانت طريقة لعبنا تقليدية ككل الأطفال في سن ما قبل المدرسة مثل «الاستغماية وعسكر وحرامية وغيرها»، إلا أننا كنا نقوم أيضًا بالتمثيل سواء لقصص أعجبتنا من الأفلام مثل فيلم «طاقية الإخفاء» الذي كنا نحب تمثيله كثيرًا، أو قصص من تأليفنا ووحي خالينا، ومن بين تلك الحكايات التي قمنا بتمثيلها، حكاية الإله مع خلقه! عندها جلست فوق منضدة عالية ممثلًا دور «الإله»، وهم على الأرض يمثلون دور الناس، ولم نكن نتفق على الحكايات بل كنا نوزّع الأدوار ونرتجل كما يحلو لنا وكما يقودنا خيالنا، فقام أحدهم بتمثيل دور ابن، وأخته كانت تمثل دور أمه، فمثّلت أنها أنها طلبت منه شيئًا ليفعله فرفض هو وعصاها، وأنا أراقبهم فمثلت أني أمسك بورقة وقلم وأكتب عليه سيئة، ثم مثّل أنه استسمح أمه، فسامحته، فقالت لي أن أسامحه فسامحته، وحذفت السيئة وكتبت حسنة!

وبينما كنّا أطفالًا تملؤنا البراءة، كان هذا من شدة تعلقّنا بالله سبحانه وتعالى، وانشغال عقولنا الصغيرة بذاته، وأين هو، وكيف يتعامل مع خلقه، وكان هذا فهمنا عن الإله في هذا العمر الصغير، وبينما لم نسأل أحد، ولم يخبرنا أحد عن الله شيئًا، وكان أهلنا يحدثوننا فقط عن أداء مراد الله منا -حسب فهمهم- ولم يحدثوننا عن الله ذاته مرة؛ فكنت أذهب مع عمي إلى مسجد صغير في قريتنا، وكنت أصوم حتى الظهر ثم لا أستطيع أن أكمل فأُفطر ببساطة، وكنت أرى «الشبشب مقلوبًا» فأسارع لوضعه على هيئته الصحيحة، وككل الأطفال كنا نفعل ما يفعلون، وجدنا آباءنا على أقوال وأفعال يقومون بها فكنا على آثارهم مقتدين!

كتب «تيم روسّ» في مايو 2011 مقال نُشر في موقع «التلغراف» الشهير حول دراسة قامت بها جامعة «أكسفورد»، توصلت إلى أن الأطفال تحت سن الخامسة يؤمنون بالأمور غير المحدودة بالنسبة للكبار، مثل الإيمان بالله والحياة بعد الموت، وأن ذلك الإيمان جزء من الطبيعة البشرية يولدون به، وأجاب الأطفال في سن الثالثة بأن الإله وأمهم يعرفان ما في داخل صندوق مغلق حتمًا، وفي سن الرابعة أجاب بعضهم بأن الإله يعرف ما بداخل الصندوق المغلق بينما أمهم ربما لم تكن تعرف!

كانت هذه الدراسة كانت ضمن دراسة دولية كبرى -بحسب كلام «روسّ»- استمرت لثلاث سنوات، قادها أكاديميَون من جامعة «أكسفورد»، وضمّت 57 أكاديميًّا في تخصصات مختلفة مثل الأنثروبيولوجي وعلم النفس والفلسفة، في 20 دولة مختلفة، توصل الفريق البحثي في نهايتها إلى أن البشر لديهم استعداد طبيعي للإيمان بالله والإيمان بالحياة بعد الموت، وبأن عمليات التفكير الإنساني دائمًا يكون لها جذور مستمدة من مفاهيم دينية.

منذ عدة أشهر، وبينما كنا نتناول الإفطار طرحت زوجتي فكرة جنونية بالنسبة لي، ما إن سمعتها حتى انشغلت بها بشدة لأيام وأسابيع، كانت أول مرة أسمع هذه الفكرة من أحد، هي لم تعبأ وقتها، وكانت ضمن كلام كثير قالته وقتها -كطبيعة كل الزوجات يتكلمن كثيرًا حتى ينسين ما قلن!- قالت: لا أعرف لماذا شخص ما في زماننا يُحكم عليه مثلًا بالقتل لأنه ارتد؟ علامَ ارتد أصلًا؟ هو شخص ولد في أسرة مسلمة، فذهب به والده وكتب اسمه وكتب في خانة الديانة مسلم، وهناك آخر ولد في أسرة مسيحية، فكُتب في شهادة ميلاده مسيحي، وآخر يهودي، وآخر هندوسي، كيف نحكم على شخص أنه ارتد عن شئ لم يختره بإرادته، صُعقت عجبًا عند سماع كلامها، وأكملت تناول الطعام بهدوء وبدون أن أوضح كم أنا منبهر بهذا القول حتى لا تنقطع عن استكماله، فسألتها: وماذا ترين؟! قالت: لمَ لا نبدأ كلنا الآن من جديد، وكأننا لسنا مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا أو هندوسًا، ثم يقرر كل منا بحرية، الدين الذي يقتنع به، ونذهب للأزهر نُعلن إسلامنا مثلًا بعد أن نقتنع به، ويذهب من اقتنع بالمسيحية إلى الكنيسة ويعلن تنصّره، وهكذا يذهب كل من اقتنع بدين معين ليدخل فيه؟!

إن نزعة العبودية والإيمان بالله لهي أقوى من أية نزعة لدى بني الإنسان، أقوى من نزعة الطعام، أو من نزعة الأمان، أقوى حتى من نزعة البقاء!، ألم ترَ كيف يضحّي أحدهم بحياته بسهولة إيمانًا بالله؟ وبحسب الدراسة التي قامت بها «أكسفورد» والتي وضحنا نتائجها، فإن هذه النزعة تكون قوية عند الأطفال دون الخمس سنوات، وإذا ما أردنا أن نعود مؤمنين حق الإيمان، فعلينا أن نعود لطفولتنا، وننسى كل ما زُرع فينا ولم نختره، وكل ما وجدنا أنفسنا فيه ولم نقرره، ثم نبدأ من جديد، عند النقطة التي نتحرر فيها من كل ما حُملّناه ولم نحمله باختيارنا.

أعلم أن الأمر ليس بالهين، أن تُعلن أمام نفسك وأمام العالم – وهو التحدي الأكبر – أنك الآن ذو عقل وقلب متحرر من كل اعتقاد ومن كل دين ومن كل عادة وتقليد ورثته، أنك الآن طفل في الرابعة أو الخامسة من عمرك، تسيطر عليك تلك النزعة القوية للإيمان بالله، وعرفته، وعبادته، ودعائه، واللجوء إليه، والرجاء فيه، والتفكّر فيه، والحب له، ثم تبدأ بالتعرُّف عليه من خلال الشرائع المختلفة حتى تختار بقلبك وعقلك ما تراه الحق، عندها فقط ستكون لديك الشجاعة لتتبع ما اقتنعت به، مهما واجهت ممن حولك.

إلى الآن، وفي هذا اللحظة التي أنهي فيه هذا المقال، لا أعلم صدقًا إذا كنت أنا شخصيًا سأستطيع أن أفعل ما أنصحك به، وإذا كنت سأستطيع أن أواجه ولا كيف أواجه، لا أعلم! ولكني أعلم جيدًا أنك إن أمسكت ورقة واخترت نقطة بداية على الورقة ورسمت خطًا مستقيمًا أفقيًا بدايته هذه النقطة فإن أية زاوية انحراف ولو بمقدار بسيط جدًا لم تلحظه في البداية ستكون آخر نقطة في نهاية الخط أبعد كثيرًا من مكانها الذي ظننت أنها ستنتهي إليه!

______________________________

عندما رأت زوجتي المقال قبل إرساله للنشر، نظرت إليّ متعجبة مستنكرة قائلة: «أنت هاتُلحد يا ميدو؟» لا تعليق!

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد