يؤرقني هذا التساؤل منذ فترة، أعلم جيدا أنه لا يشغل بال الكثيرين ولا يقض مضاجعهم، ربما لا يراودهم أصلًا، أو يطرق بابهم فيردونه خائبًا تحت دعوى أن الوقت غير مناسب لمثل هذه الأسئلة، وأن لا صوت يعلو فوق صوت الانقلاب الذي يترنح.
سؤال “ماذا لو انتصرنا في رابعة” يختلف اختلافًا كليًّا عن سؤال “ماذا لو لم تكن هناك رابعة أصلا”، الانتصار في الرابع عشر من أغسطس أو بعدها لا يشبه الانتصار في 30 يونيو أو وأد الحدث قبل ولادته، يبدو هذا الاختلاف جليًّا إذا ما تتبعنا سير الأحداث وبوصلة الجماهير التي غيرت اتجاهها كثيرًا منذ الخامس والعشرين من يناير وحتى يومنا هذا.
الضمير “نا” نفسه في “انتصرنا” يعود على مجموعات متعددة تختلف باختلاف الحدث؛ فداعمو مرسي في انتخابات الرئاسة يختلفون عن داعميه في جولة الإعادة التي أضاف ليمونها عددًا أكبر للفريق، مؤيدوه أيضًا في مواجهة تمرد ومعركة 30 يونيو ليسوا بالضرورة هم مؤيدوه فيما بعد الثالث من يوليو، الحرس الجمهوري، المنصة، رمسيس وحتى يومنا هذا.
لكن تظل رابعة هي اللحظة الفاصلة التي يؤرخ بها لبداية مرحلة جديدة ومختلفة – كما أظن. ذلك أنَّ تحولًا في كنه المعركة وطبيعتها قد حدث في الرابع عشر من أغسطس، بل ربما منذ حادثة الحرس الجمهوري، تحولًا غيَّر كثيرًا من ديموغرافيا الفريقين المتناحرين بل ومن أهدافهم وأسمائهم حتى، وبدلا من اقتصار المباراة على فريقي الشرعية والانقلاب، بدا أن المجال اتسع قليلا والأفق صار أرحب ليستوعب فريقين جديدين على أرضية أخلاقية إنسانية هذه المرة بدلًا من الأرضية السياسية التي كانت المحرك الرئيسي للأحداث فيما قبل رابعة.
“ماذا لو انتصرنا في رابعة؟” يبدو السؤال الآن أكثر وضوحًا، نبدو نحن أنفسنا الآن أكثر وضوحًا، نحن الذين ثرنا بعد الثالث من يوليو من أجل أصواتنا التي دهست بكل بساطة تحت عجلات دبابات الثلاثين من يونيو، نحن ذوو الخلفية الإسلامية على الأغلب، منا الإخوان وغير الإخوان، منا من انتخب أبو الفتوح ومن صوَّت لحمدين ومن قاطع جولة الإعادة، منا من نادى بإسقاط مرسي قبل الانقلاب ثم عدل عن خياراته سريعا حين وعى الدرس،
كل هؤلاء وغيرهم هم من دعموا رابعة واختاروها، هم من اعتصموا في ميدانها أو زاروها للحظات، كل هؤلاء هم من انحازوا لدعم إرادة واختيار الشعب ودافعوا عن هذا الاختيار حتى وإن كان بعضهم لم يَخْتَرْه، وحتى لو أثبت هذا الاختيار فشله.
لكن وبرغم وضوح – إلى حد ما – من ساندوا رابعة حتى وإن اختلفت بعض أهدافهم، إلا أن الهزيمة أو الانكسار وحده هو ما جمعهم، القهر وحده مَنْ استطاع أن يوحدهم والانتصار وحده كان القادر على تفريقهم مرة أخرى، لن يظل نفس فريق رابعة بمكوناته الحالية و داعميه – أو على الأقل من لا يعادونه – كما هو الآن لو كانت لحظة رابعة كللت بالانتصار أيًّا كان نوع هذا الانتصار وموعده.
أحد أوجه هذا الانتصار هو التفاوض والاتفاق، هذا الاتفاق الذي كان ليجعل من مرسي وحزبه أربكان ورفاة جددًا، كان مرسي ليخسر موقعه في انقلاب ناعم أقل فجاجة مما نشهده الآن، كان الإسلاميون ليواصلون معاركهم الانتخابية، ربما يفوزون ببعض الاستحقاقات الديمقراطية بفضل ما حافظوا عليه من بعض القواعد الجماهيرية والمناخ السياسي الذي لم يكن ليغلق بالكامل. هل كان هذا ليعد انتصارًا؟ ربما،
ربما يعتبره البعض كذلك خصوصًا إذا ما تخيلنا وجود أسماء البلتاجي وحبيبة عبد العزيز بيننا الآن، لم نكن حينها لنفتقد حسام أبو البخاري وعصام سلطان، لم يكن لشباب عرب شركس أن يعدموا ولا لأكثر من أربعين ألفًا من رفاقنا أن تواريهم المعتقلات. ربما كان ليعد انتصارًا منقوصًا لكنه كان سيُبقي قليلا على الأمل الذي هجر الكثير منا الآن.. لكننا لم نكن لنعلم حينها أن أصنامنا التي بنيناها يومًا ما كان لزامًا علينا أن نهدمها ونطيح بها.
ماذا لو لم ينجح الفض؟ أو تم الفض فثار الناس وانتصروا؟ ربما تكون هذه صورة أخرى من صور النصر، نصر بطعم الصمود والتحدي، نصر يستحقه جنوده ومن حاربوا من أجله على كافة توجهاتهم واختلافاتهم، ربما يكون هذا النصر هو أفضل خيارات النصر فقد شارك فيه الجميع، إسلاميون وغير إسلاميين. كان هذا النصر ليكفل صيغة تشاركية مستقبلية أفضل لإدارة مصر، كان ليروض الإخوان قليلا ويهذب طموحاتهم، في الوقت نفسه الذي يعطي الآخرين فرصة للمشاركة في رسم مصير أفضل للوطن مما يبدو عليه الآن مصيره المظلم.
لكن الصمود في رابعة كان سلاحًا ذا حدين، وبقدر التنوع الذي ضمه الميدان إلا أن سخط بعض الإسلاميين على الإخوان وسياساتهم ربما كان ليعيق التحالف لاحقًا، ربما اغتر الإخوان بهذا الانتصار واعتبروه حصريًّا لهم فما زادهم إلا ابتعادًا عن الشارع، وما زاد هذا الشارع إلا نفورًا منهم. صمود رابعة كان ليكون أفضل فقط لو تم دعمه بخطة لما بعد الانتصار، خطة لم يتحمس أحد للتفكير فيها منذ الانقلاب على مرسي بل ربما قبل ذلك بقليل، خطة لازلنا نفتقدها حتى الآن رغم الابتهالات والدعوات اليومية بسقوط الانقلاب في وقت لا يملك أي من هؤلاء الداعين أي تصور مستقبلي لما بعد السقوط.
يبدو لي الآن بقدر من التشاؤم أن لحظة رابعة كانت في حد ذاتها لحظة هزيمة طويلة المدى، حين تحركت الجموع باتجاه هذا الميدان كانت تتحرك نحو لحظة لا يمكن الانتصار بعدها، لحظة لن تعود الحياة بعدها – حتى لو انتهت بالنصر – إلى سابق عهدها، لحظة لن يستطيع الإسلاميون بعدها أن يحكموا مصر لفترة ليست بالقليلة، ولن يستطيع بقية الثوار بعدها أن يثوروا أبدًا. كانت رابعة لحظة برغم دوامها قرابة الخمسين يومًا، كانت لحظة خسرنا فيها فرصة تحقيق انتصار كامل فصارت بعدها كل الخيارات منقوصة لا تحقق ما كنا نطمح إليه في الحادي عشر من فبراير.
أتساءل “ماذا لو انتصرنا في رابعة” وأنا أعلم جيدًا الآن أننا لم نكن أبدًا لننتصر حتى ولو انتصرنا.. وإن انتصرنا كنا لننهزم..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست