في البداية يهمّني أن أوضّح أنّ لي علاقة وصلة وثيقة مع ثلة من الشباب العلماني العربي، نلتقي في بعض الأفكار ونختلف في الكثير ولا يمنعني ذلك أو يمنعهم من نقد حالات مُختلفة، سواء في الساحة الإسلامية أو العلمانية، أحاول من خلال هذا المقال مناقشة الظاهرة والنموذج (المُطلق) بعيدًا عن الشخصنة. قد يُزعج عنوان هذا المقال بعض العلمانيين العرب الذين تعودوا على إشاعة التعريفات الوردية للعلمانية والتي تعِدُ الشعوب بالخضرة والهناء والسعادة الأرضية والتسامح والتقدّم والحرية والديمقراطية، لكنّها في الواقع لم تأت على أوطاننا – بل العالم بأسره – سوى بالخراب والاستعمار والحروب المُستمرة وانتفاء القيم وتفشّي الفوضى الفكرية وانتشار الطبقية. الشئ الوحيد الذي ازدهر بحق في ظلّها هو تجارة السلاح التي تعددت فيها أنواع القنابل الفاتكة بالإنسان، وصارت بلادنا ساحة للتجارب الكيميائية والنفايات النووية وأسلحة الدمار الشامل التي أتت على الأخضر واليابس وحوّلت مدنًا وقرىً ليباب كأنّها لم تكن شيئًا مذكورًا.
ثم يسألني البعض بعد ذلك، ما الذي بينك وبين العلمانية؟
– بيني وبينها مسافة كبيرة، لأنّها تُسيطر على واقع الحياة الخاصّة للمُجتمعات والشعوب، أقصد أنّها حينما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر بمفهومها السطحي و البسيط (فصل الدين عن الدولة) حملت في طيّاتها مضمونًا تاريخيًا وحضاريًا مختلفًا لمصطلح (الدولة) والذي كان آنذاك مُرتبطًا بالإجراءات والسياسات المُباشرة بمؤسسات الدولة المحدودة والصغيرة، بينما كانت الجماعات البشرية هي من تتحكّم بالمنظومات الأخلاقية والدينية والتربوية والتعليمية وغير ذلك. كانت دولة بمفهوم محدود غير الدولة اليوم، والتي اقتحمت حياة الناس بكل تفاصيلها وبأدوات جديدة كالتعليم والإعلام والمؤسسات الإقتصادية المُعقّدة والشمولية، ثم بدأت الدولة تتعملق على حساب رقعة الحياة الخاصة فطوّرت المؤسسات التعليمية والتربوية والأمنية والسياسية والاقتصادية وإجراءات السوق، وكلّما توسّعت الدولة تقلّصت الجماعات البشرية.
– بيني وبينها شِقاق كبير لأنّها تتدخّل في تعريف المرجعيات ومنظومات القيم والإنسان من خلال آلة كالإعلام – المرئي منه على وجه الخصوص – التي توغّلت في تفاصيل المواطن فحدّدت له تفاصيل حياته اليومية: كيف يأكل، كيف يشرب، كيف يلبس، كيف يُربّي أطفاله، كيف يُحب، كيف يكره، كيف يحلم، حدّدت له خريطته التي يُدرك من خلالها واقعه، يجلس المُشاهد المسكين أمام شاشة التلفاز أو الهاتف فيتلقّى كلّ ذلك في صورة جاذبة وفكرة مُحكمة مفروضة بذكاء وبسرعة لا تُمكّنه من التفكير الذي يصنع حالات الوعي، على عكس القراءة من كتاب مثلًا والذي يُعطي القارئ مهلة كافية ليتمعن في الدلالة والمفهوم.
– بيني وبينها فِراق فكري لأنّها جعلت من (الإعلام) إلهًا يُعبد من غير الله، فليس ثمة من يُراقبه وليس هناك من يُحاسبه ولا توجد سلطة فوقه، تنتخبه – مثلًا – انطلاقًا من آليات العلمانية. الإعلام تستخدمه الدولة للهيمنة على كلّ المفاهيم الثورية داخل الشخصية الإنسانية كالدين والقيم والمرجعيات الكلّية واللغة والأحلام وغير ذلك.
– بيني وبينها مُمانعةٌ إنسانية لأنّها جعلت من (الإنسان الناجح) الإنسان الذي يستكين لقوانين المادة ويُعرّف نفسه انطلاقًا من الإشارات الإعلامية المتوغّلة وتدفعه الإحتياجات الإقتصادية والإستهلاكية، أي يُصبح الإنسان (كائنًا اقتصاديًا)، وتتحوّل قيم الُمجتمع من كونها قيم مُركبّة (دينية، ونفسية، وروحية، واجتماعية، وحتى مادّية) إلى قيم صناعية تُعرّف التقدّم بكونه نموّ مستمر تتصاعد من خلالها مُعدّلات الاستهلاك لا غير، فينحاز الإنسان للموضة مثلًا ليصير أكثر تقدّما حينما يرتدي أغلى الثياب والمجوهرات والماركات، وذلك حتى يُسمح له بالإنتساب لنادي الحداثة والتقدّم. ثم يتحوّل الإنسان تباعًا ليصبح شيئًا من الأشياء ونمطًا من الأنماط، وهنا مكمن العقدة: نزع الإنسانية عن الإنسان وتجريده من خصائصه الحقيقية وتحويله لسلعة استعمالية بدون معايير.
– بيني وبينها اختلاف واسع لأنّها عزّزت شعار (البقاء للأقوى) وحوّلت العالم لغابة أو حلبة صراع يأكل فيها القوي الضعيف، وصارت الوسيلة الأنجح التي يُحسم فيها أي صراع: القوة. كيف لا وقد أصبح الإنسان مكتفٍ بذاته، يعتبر نفسه مرجعية كل شيء، هو الخصم وهو الحكّم، يُؤمن بالنسبية الشاملة والمادّية البحتة. اليوم نُشاهد بكل وضوح نتائج هذا الشعار الوحشي في عالمنا العربي والإسلامي، وشاهدناه سابقًا في مجازر إنسانية يندى لها جبين البشرية من أمريكا الشمالية وحتى البوسنة والهرسك.
– بيني وبينها تباين واضح لأنّها غيّرت الأنماط الطبيعية للبشر في السكن والمعيشة والتكافل والتضامن، فحوّلت الأوطان إلى كنتونات محدودة (حياة المدينة) يسكنها الناس في رقعة محصورة، بعد أن كانت في السابق تأخذ أشكالًا مُختلفة ومُتّسعة كالقرى والقبائل والأسر الكبيرة المُنتشرة. هذا الشعور بالمحدودية والسرعة والإلتزام بقوانين (السوق) – كما ذكرنا سابقًا – جعلت المواطن أكثر التزامًا بما يُمليه الواقع عليه حتى لو تعارض مع قيمه وأخلاقه، فتفكّكت المنظومات الإجتماعية وأشكال التضامن التي عرفتها الحضارة على مر السنين وفي القلب منها منظومة الأسرة، ثم صار الإنسان بلا خصوصية، وصار هو وأسرته ومن يعرفهم وما يلبسون وما يأكلون وما يركبون ومساكنهم وأحلامهم وما يُشاهدون على التلفاز ضمن عملية توظيف داخل مفهوم السوق والإستهلاك دون إدراك أو بإدارك لخدمة الشركات الكُبرى ومصلحة المُنتج.
– بيني وبينها ما بين المشرق والمغرب لأنها تسعى لتنميط التديّن وعلمنته من خلال رفد المؤمن بحالة شعورية روحية عن الله فقط، ومُحاصرة التديّن بالضمير الشخصي، كمُخدّر يضمن له راحة البال والشعور بالطمأنينة. عوضًا عن أن يكون التديّن الحقيقي إيمانًا جذريًا وقويًا بقدرة الإنسان على تجاوز الحالة المادّية، والاستناد لمنظومة أخلاقية تقوده نحو تنظيم علاقته بكل شئ من حوله: الناس والمُجتمع والمادّة والتاريخ والسياسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق العدل في الأرض.
– لأنّها تدخل على الدين من باب (التجديد والإصلاح الديني) وتشتغل على تحويل (الله تعالى) لمفهوم عقلي بحت يُناقشُ انطلاقًا من المرجعية التاريخية والطبيعية والعلمية، وهنا يفقد الدين البعد غير المحسوس والذي يتعامل مع عالم الغيب أيضًا كما يتعامل مع المحسوس وعالم الشهادة، ويُصبح حُلم بعض المتدينين تفسير الدين – كلّ الدين – بشكل علمي او بالعودة لحوادث التاريخ. إذ يشعر بهذه الطريقة أنّه يتلاقى مع المنظومة العلمانية في الغرب ويتقرّب من الصورة الحضارية لتعريف الأشياء.
– لا أحبّ الفردانية فيها إذ تجتهد في سلخ الفرد من الاهتمام بالكلّيات وبالآخر وبالُمجتمع وبهموم الأمّة، وتكتفي بتعزيز التمركز حول الذات، فيُصبح الفرد أكثر وزنًا من الوطن والأمّة، لذلك تُصبح تفاصيله الشخصية أكثر أهمية من أي شيء آخر: ماذا يرتدي، وماذا سيأكل، وأين سيسافر في العطلة، أو مثلًا يغدو التمسّك ببعض السُنن والنوافل والتشدّد بها – في حالة الفرد المؤمن – أكثر أهمية من الصدع بالحق والوقوف في وجه الظلم وإصلاح المُجتمعات، وهذا بالطبع يشعر الفرد بالرضى والسرور الداخلي بينما تغرق الأمّة بأسرها في الديجور.
– الذي بيني وبينها هوّة كبيرة، لأنّها رمت بأهمّ الكُلّيات الأخلاقية والقيم عرض الحائط، بعد أن كانت تُحدّد لنا الطريق وترسم لنا السبيل وتساهم في صناعة الحضارات على مرّ التاريخ. أقصد ماذا حلّ بمفهوم الجمال اليوم؟ لماذا نشاهد هذا الإختلال المُزري الذي أصاب الجمال؟ ألا تُلاحظ اضطراب مفهوم العدل في العالم اليوم؟ لماذا نشهد أزمة ثقافية كبيرة في مفهوم الخير والخيرية مثلًا؟ ما هي غائية الإنسان النهائية اليوم؟ ولماذا نشهد انحدارًا مأساويًا في مفهوم الحرية؟ أين موقع الروح من كلّ هذه الضوضاء المادّية من حولنا؟ بل أين خصوصية الإنسان واستقلاليته التي تتبجّح العلمانية بسردها ضمن منظومتها اليوم؟ لماذا يتم مساواة الجميل بالقبيح والعدل بالظلم والخير بالشر في حالة انفصال غريبة عن قيم الإنسان الكُلّية والإعتبارات الدينية والأخلاقية؟
ألا تلاحظ معي إذًا أنّ العلمانية انتقلت من مُجرّد كونها (فصل الدين عن الدولة) إلى (فصل القيم الكلّية عن حياة الإنسان)؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست