هل حقًّا تطورت أنواع من الكائنات التي عاشت على الأرض قديمًا إلى كائنات جديدة؟ لماذا بالضرورة توجد كل هذه الأنواع الحية على كوكب الأرض، ثم لا شيء بعدها في سماوات تبدو لا نهائية؟ أسئلة صعبة. مع ذلك، فإن للحياة مظاهر نعرفها حين نراها.
في محاولة الوصول إلى إجابة عن السؤال الأول: ما الحياة؟ تُسعِفُنا الذاكرة بما تعلمناه عن بعض مظاهرها في مناهج الدراسة الأولية: التغذية، والنمو، والتكاثُر. لكن، أليست للنار الخصائص ذاتها؟ هل النار حية؟ بالطبع لا. إذن علينا أن نبحث بشكل أعمق كي نتفق على قائمة من الخصائص التي تُميِّز الحياة والأحياء.
ماذا عن الفيروس؟ إنه ذلك «الشيء» المكوَّن من غلاف بروتيني، ويحتوي على مادة وراثية، ويعمل على غزو الخلايا المُختلفة وإجبارها على تصنيع آلاف النُّسَخ من مادته الوراثية، التي سُرعان ما تُحيط نفسها بغلاف بروتيني، وما تلبث الخلية المهزومة إلا قليلا ثم تنفجر لتنطلق أعداد كبيرة من نُسخ الفيروس الأول، لتُهاجم خلايا جديدة، وهلم جرا. إذن: هل لمجرد أن للفيروس تصميم خاص، و«غرض أساسي» من حياته يعمل على تحقيقه بطريقته، يُمكن أن نصفه بالحياة؟ يُجيبنا علماء الأحياء: لا، ليس حيًّا، لأنه لا يمتلك نظامًا كيميائيًا حيويًا للتمثيل الغذائي Metabolism خاص به. ما زلنا إذن لم نُراوِح مكاننا، وما زال السؤال قائمًا: ما الحياة؟
لربما كانت الإجابة كامِنة في التاريخ البعيد، عندما نشأت خلية حية لأول مرة على الأرض من مزيج من المركبات الكيميائية، وبمساعدة من البيئة حولها. إذن، هل البيئة ذاتها أحد مُقومات الحياة؟ لنأخذ الأكسجين على سبيل المثال، لا يُمكن لحياة إنسان الاستمرار إن اختنق أو غرق. إذن لغاز الأكسجين أهمية كبيرة لاستمرار الحياة. مع ذلك، لدينا نوعيات من البكتريا إن قَسَت البيئة من حولها تستطيع أن تعزل نفسها لمدد طويلة، ثم إذا تحسنت الظروف جعلتها قابلة للحياة مرة أخرى. وبعيدًا عن الأكسجين، يمكن القول إن الأحياء يستغلون البيئة بدرجات متفاوتة، أدناها النباتات، فهي لا تحتاج سوى لضوء الشمس والماء وغاز ثاني أكسيد الكربون كي تصنع غذاءها؛ لذا نجد أن عملياتها الكيميائية الحيوية في غاية التعقيد. إجمالا يُمكننا أن نقول إن كل الأحياء عالة على البيئة، حتى النباتات.
هكذا، تباينت التعريفات، واستمر العلماء في سعيهم لفهم الحياة، فأنتجوا تلالا من البحوث العلمية، أدت في النهاية لتعريف موجز، وغريب بعض الشيء، للحياة، وكيفية استمرارها، فقالوا إنها تعتمد على أمرين أساسيين: المادة الوراثية، والكهرباء! نعم، الكهرباء أصل الحياة.
الكهرباء أصل الحياة
صاحب الفكرة، عالم الكيمياء الإنجليزي بيتر ميتشيل Peter Mitchell، أثبتها ونشرها في مطلع ستينيات القرن الماضي، ونال عن عمله جائزة نوبل عام 1978م.
الذي أثار ذِهن بيتر تساؤله عن كيفية احتفاظ الخلية بمكوناتها آمنة بمعزل عن المحيط الخارجي، فاكتشف أن عملية ضخ المركبات لخارج أو لداخل الخلية من الضرورة أن تستهلك طاقة. الشيء المُلْهَم في عمله، أنه أدرك أن آلية عمل الخلية على النحو الذي سنُبينه بعد قليل، لا تقتصر على البكتريا، بل تنطبق على آلية التنفس أيضًا، حيث يتم ضخ البروتون «H+»، وهو عبارة عن نواة ذرة الهيدروجين العادي (أي ذرة الهيدروجين وقد تم نزع الإلكترون الوحيد لها)، إلى خارج الخلية، فينشأ فرق في التركيز بين داخل وخارج الخلية؛ والأهم أنه سينشأ أيضًا فرق جُهد كهربي يجعل خارج الخلية موجبا، وداخلها سالبا. ثم ما تلبث البروتونات إلا أن تعود لداخل الخلية، فينهار فرق الجهد الكهربي، ويتعادل التركيز، وتتحرر طاقة.
تَضُخُ خلايانا عبر غشاء المايتوكوندريا Mitochondria، وهي العُضَيَّة المسؤولة عن التنفس في الخلايا، في كل ثانية عشرة آلاف مليون مليون مليون بروتون، وهو رقم يساوي تقريبًا عدد النجوم في الكون المرئي كله؛ بل إن البكتريا تضخ البروتونات بأعداد أكبر من هذا. ولنا أن نسأل: من أين للخلية كل هذه الطاقة لضخ البروتونات؟ تأتينا الإجابة سريعًا: من حرق الطعام بالأكسجين أثناء عملية الشهيق، حيث تُنزع الإلكترونات من ذرات جزيئات الطعام المهضوم، الذي نقله الدم لكل خلية، ومن خلال تدفق الإلكترونات واتحادها بالأكسجين، ينشأ تيار كهربائي من شأنه إنتاج طاقة كافية لاستخلاص البروتونات. ولئن توقف التنفس، سيتراجع تدفق الإلكترونات، وتحدث الوفاة؛ من ثم يُمكن تعريف الوفاة «علميا» على أنها: توقف القوة الدافعة للبروتونات.
تخيل تلك السلسلة الطويلة عبر ملايين السنين، منذ نشأة الحياة وحتى ظهور الكائن البشري على سطح الكوكب، وقد مضت على وتيرة واحدة من التدفق المستمر للإلكترونات والبروتونات، ولو لم تكُن تلك السلسلة لنفدت حيواتنا وصرنا إلى زوال.
لنرجع الآن إلى البكتريا، ثمة نُقطة هامة، ذلك أن معظم أنواعها لا تستخدم الأكسجين، أو حتى الطعام، بل تستخدم غازات أخرى، ونوعيات مُحددة من الأملاح المعدنية، المتواجدة بالصخور، كي تحصُل على الطاقة اللازمة لتدفق البروتونات. إذن لئن فهمنا كيفية عمل البكتريا لتحقيق ذلك، رُبما نكون قد اقتربنا كثيرًا من تعريف الحياة.
البحث عن «لوكا LUCA»
لوكا هو الاسم المُختصر الذي أطلقه العلماء على الأصل العام المُشترك لكل الكائنات الحية: Last Universal Common Ancestor: LUCA. صحيح أن لوكا نفسها كانت خلية حية بالفعل، إلا أن عُمقها التاريخي يجعلها موجودة بُعيد نشأة الحياة مُباشرة. ولئن أثبت العلماء أنها كانت أيضا تعمل بالقوة الدافعة الكهربائية للبروتون، فإن ذلك سيعني أن تلك الطاقة قد نشأت في زمن أبعد، يوم أن تنفس الصبح بالحياة، عندما تحول مزيج من المواد الكيميائية إلى خلية حية.
يقول لنا علم التصنيف، أن لدينا ثلاثة أنواع أساسية للحياة، بناءً على نوع الخلايا. أعلاها رُتبَة الإيوكاريوت Eukaryotes، ويشمل كل الكائنات الحية التي تتركب من خلايا مُعقدة، ويندرج تحت هذا النوع الإنسان والنبات والفطريات. ثم يأتي في الترتيب البكتريا، ثم أدناها، المعروف باسم الآركِيا Archaea. ولأن الإيوكاريوت أحدثها وجودًا؛ إذ يرجع تاريخها إلى حوالي ألفين مليون سنة فقط. ولأنها في الحقيقة عبارة عن نِتَف من البكتريا والآركِيا، بمعنى أنها تحتوي على خصائص من كليهما؛ إذن يمكن القول إنه ثمة نطاقان فقط للحياة الأولية، بناء على نوع الخلايا: البكتريا، والآركِيا، وكلاهما يتألف من خلايا ضئيلة قليلة الشأن من حيث المظهر والتركيب، لكنها بديعة مُدهشة من حيث نوعية الكيمياء الحيوية التي تتفاعل بداخلها. ولقد سادت البكتريا والآركِيا الأرض لمدة ثلاثة آلاف مليون سنة، قبل أن تبدأ خلايا الإيوكاريوت في الظهور. كما أن العمليات الكيميائية الحيوية قد تطورت بداخلها، بما في ذلك العمليات المُعقدة للتمثيل الضوئي وتثبيت النيتروجين والتنفس.
لنقترب الآن رويدا رويدا من بعض المفاهيم التي يطلب منا العلم التعويل عليها كي نفهم نشأة الحياة، عبر دراستنا للبكتريا والآركيا، وصولا لجدتهما: لوكا.
لدى العلماء قناعة أن لوكا احتوت على مادة وراثية، وبروتين، بالإضافة لكونها ذاتية التغذية، كالنباتات التي نعرفها اليوم، تحصل على احتياجاتها من الغازات والأملاح غير العضوية المتواجدة بالصخور، إلا أنها لم تعتمد على أشعة الشمس، كما هو الحال في البكتريا، كي تقوم بعملية البناء الضوئي، أي صُنع الغذاء من طاقة أشعة الشمس ومواد أولية بسيطة، ثاني أكسيد الكربون والماء والنيتروجين، من خلال المادة الخضراء المعروفة بالكلوروفيل Chlorophyll؛ وفي الواقع يُعتقد أن لوكا كانت أشبه بالآركِيا.
الذي كان مُتاحًا وقت نشأة لوكا غاز الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، وتفاعلهما معا لم يكُن سهلا؛ من ثم يُعتقد أنها «لجأت» إلى القوة الدافعة الكهربائية للبروتون، بمُساعدة بعض الأملاح المعدنية في الصخور المحتوية على عنصر الحديد والكبريت، كعامل حفاز. وهنا النقطة المهمة، لقد اعتمدت لوكا على البيئة حولها، مستخدمةً الشحنة الكهربائية، دون أن يكون لديها القُدرة على انتاجها.
النشأة الكهربائية الأولى
أواخر ثمانينيات القرن الماضي، افترض مايك رَسِل Mike Russell وجود نوعية خاصة من ينابيع المياه الحارة، من الوارد أنها كانت الحاضنة البيئية التي نشأت بها لوكا. ثم في عام 2000م، تم الإعلان عن اكتشاف إحداها على قمم سلاسل جبال بقاع المحيط الأطلنطي؛ حيث أطلقوا عليها اسم «المدينة المفقودة».
لم ينشأ ذلك الحقل من فتحات الينابيع الحارة بسبب أي نشاط بركاني، لكنه نشأ ببساطة بسبب التفاعُل الكيميائي بين الصخور المكونة لقشرة الأرض بقاع المحيط مع الماء، مُنتِجَة سوائل مائية حارة ذات طبيعة قاعدية Alkaline، وتنتشر فيها فقاقيع الهيدروجين.
الطريف أن المدينة المفقودة تلك قد اتخذت شكل متاهات من المسام الصغيرة المُحاطة بجدران رقيقة من مواد غير عضوية، تعمل خلالها القوة الدافعة الكهربائية للبروتون، التي نتجت من اختلاف تركيز البروتون في السوائل المائية الحارة القاعدية، مُقارنةً بماء المحيط الحامضي. تلك المسام تتشابه إلى حدٍ بعيد، من حيث التركيب، مع أقدم أنواع البكتريا والآركِيا، التي ما تزال تعيش في البيئة نفسها، إلا أنها بالطبع لا تقوم بالعمليات الكيميائية الموصوفة سابقًا، بسبب أن وفرة الأكسجين اليوم تمنع تفاعل الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. لكن، قبل أربعة مليارات سنة، قبل أن تُوجد النباتات وتُنتِج الأكسجين، ربما كانت قوة الدفع الكهربائي للبروتون قد أدت لظهور المركبات العضوية، ومن ثم الخلية الحية.
ثمة سيناريوهات علمية عن الحدث الكبير في تاريخ ظهور الحياة على كوكب الأرض، جميعها عبارة عن تصورات لتفاعلات كيميائية «من المُفترض» في النهاية أن تؤدي لظهور جزيئات عضوية من الأحماض الأمينية، التي بدورها تتألف منها البروتينات، ومع أشياء أخرى تنشأ الخلية الحية، القابلة للانقسام والتكاثُر. على أية حال، تم بالفعل بناء مُفاعلات حول العالم، لاختبار تلك السيناريوهات الكيميائية؛ كان أولها في جامعة دِسِلدورف Düsseldorf بألمانيا، بريادة العالم بِل مارتين Bill Martin، كما أن آخرها كان الموصوف بالبحث المنشور في مجلة لايف Life، في أول فبراير 2019م؛ إلا أنها – جميعًا – قد مُنيَت بخيبة الأمل.
ما الحياة إذن؟
ربما سيحاول الباحثون في المستقبل تطوير تجاربهم، أو ربما تظهر نظريات أخرى في محاولة تسليط الضوء على تلك اللحظة العارِمَة في تاريخ الكوكب، حين ظهرت أول خلية حية. مع ذلك، فإن العجيب حقًّا هو طموح العقل البشري، الذي ما يزال بَعْد قاصرًا عن كشف سر الحياة هنا على الأرض، فإذا به يُصمم التجارُب للكشف عن الحياة في الكون، بادئًا بالبحث في خصائص بعض أقمار الكواكب القريبة. إنهم يقولون لنا أن القوة الدافعة الكهربائية للبروتون، مع مزيج الغازات والماء، وتلك الصخور من الأملاح المعدنية غير العضوية، التي يُعتقد أن الخلية الأولى قد ظهرت بسببها، يُمكن أن تتكرر في الكون، خاصة إذا عرفنا أن تلك الصخور، المعروفة باسم الزبرجد الزيتوني Olivine، موجودة بوفرة في كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها الصخرية، وأيضًا في الغبار بين النجوم.
لا شك عندي في أهمية البحث العلمي، وما يُنتجه لنا العلم من أمور من شأنها تحسين معيشتنا والارتقاء بها. لكن، محاولة الإجابة عن الأسئلة الكبيرة إجهاد للعقل فيما لا نفع من ورائه. قُل لي ما الفائدة المُباشرة، أو غير المباشرة، إن تم اثبات وجود «لوكا»، وما قبلها من تفاعلات كيميائية وكهرباء من المُفترَض أنها أدت لظهورها. هل إثباتها سيُجيب عن السؤال الضخم: ما الحياة؟ هيهات هيهات؛ ذلك أنه على أفضل تقدير سيُعطينا وصفًا لآلية التحوُّل من الكيمياء إلى البيولوجيا، لكن يظل البَوْن شاسِعا بين لوكا وأقل الكائنات الحية شأنا من حيث التركيب أو الكيمياء الحيوية اللازمة لإبقائه على قيد الحياة. بل إن من العجيب أن يطلُب العلم منا التسليم بتلك الفرضيات، التي إن صَحَّت فقد استغرقت آلاف الملايين من السنين كي تحدث، ثم إذا بالحياة شيء آخر! ثم إن المسافة لهائلة بين لوكا والضمير، بين لوكا والوعي.. بين لوكا، والموت. فكما سألنا: ما الحياة، لا بُد لنا أن نسأل: ما الموت، وما الحُلم.. وما الجنون في مُقابل العقل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست