المبالغة في السؤال، لا تعني المبالغة في الإجابة، فالغرض من المبالغة في السؤال الإبهام، لغرض الإفهام، والغرض من الإجابة الإفهام، لإزاحة الإبهام، وفيهما معًا تكمن المشكلة، ومن خلالهما يتضَح الأمر وتتكشف الحقيقة.
السعودية اسمٌ فخمٌ من المفترض أن يتفجر عنه محيط هائل من الأفكار والرؤى، ولكنها بمعية شخص، كحال الدول الشمولية في واقعنا العربي الراكد، يخطمها ذلكم الشخص الذي يجيد الألفاظ، ويحفظ الخطط، ولكنه لا يخطط، ولا يفترض، وإن فعل فمن باب الصدمة الحضارية الغربية التي استشربها صغيرًا، وكبر معها، فأراد إسقاطها على بلاده، بطريقةٍ كلية لا خصوصية فيها، نظرًا لذلك الفهم البسيط الشائق للصور؛ دون الفهم التركيبي للصور ذاتها.
السعودية التي تفكر في اليمن، هي ذاتها السعودية التي تفكر في إيران، وإن كان التفكر؛ بل التدبر في شأن إيران المتصل باليمن أعمق، وأكثر تكثيفًا، فالحرارة البدائية المتمثلة في عاصفة الحزم، استوقفتها الحرارة الإيرانية المنتصرة لحليفها الحوثي، ما يعني أن تلكم الدفقة المشاعرية التي حدثت للأمير السعودي، تحولت إلى ورطة وكارثة، إذ إن تلكم النزوة ليست سياسة، ولكنها استحالت إلى سياسة في إطارها الذي استحدثته بفضل أفعالها الخرقاء، حتى ضاق بها، ثم إن التحرك الإيراني القاصف للمنشآت النفطية في السعودية، أوصل لها رسالةً حارقة مفادها:«لن تقضوا على حليفنا، لأن باستطاعتنا مهاجمتكم، ولحليفنا تبني ذلك الهجوم».
ما استدعى خفض لهجة الأمير، أو السعودية، والسعودية والأمير مترادفتان لفعلٍ سياسي أو نَزَويٍّ، ولا فرق بينهما، لأنهما واحد كما ألمحت، انخفضت اللهجة، واستدارت النبرة، واتسعت هوة الغاية التي اُعلِنت إبَّان العاصفة في أيامها الأولى، وأصبحت المليشيا محميةً إيرانيًا، حمايةً سياسية في المحافل الدولية، لاتصال ملفها النووي بالعالم، ومحاولة استحداث محاور جديدة بخصوصه، أو العودة بالاتفاق إلى سابقه، بالإضافة إلى التغيُّر المضاد في البيت الأبيض للدور السعودي في اليمن، ما يحتم على الأخيرة تبريد الملفات، وعلى رأسها الملف اليمني، وتخفيف اللهجة الإعلامية، من قِبل الأمير شخصيًا، وحماية عسكرية إيرانية ثانية؛ لها مدخلاتها التخريبية والإيعاز للمليشيا بالتبني، وتهريب الأسلحة عبر البحر وربما الجو، ولإيران في الحدود اليمنية دولة عُمان المتداخلة معها في المغنم والمغرم السياسي، ولكنها لا تقدر أن تظهر بوجهها أو تصريحها، رغم تماهيها إلى درجة اختلاط الروح في البدن.
ليس في صالح السعودية القول بأن إيران تقصفها، لأن لا قدرة لها على الرد، مالم يأذن الحامي الأمريكي بذلك، ويعطيها الضوء الأخضر الذي على إثره يكون العقاب، رد اعتبارٍ للاعتراف السعودي حيال الحقيقة الحادثة من قِبل إيران.
حين وجدت السعودية ورطتها، كما لو أنها اكتشفتها لأول مرة، قالت في نفسها:«ولِمَ لا ألعب كما تلعب إيران، فإذا هي تهددني بوجود الحوثيين، فأنا بالإزاء سأهددها بالقضاء عليهم، ولن أقضي عليهم أبدًا، ولكني سأجعل هذه الورقة في يدي كما تفعل هي بالمقابل، ولا بأس أن يبقى الصراع، فالأرض التي تُدار عليها المعركة ليست أرضي، والدماء المسفوحة ليست دماء أبناء وطني».
ولأنه لا يوجد نخبة سياسية يمنية شريفة، يمكن لها كبح جماح الشقيقة الكبرى، واصلت حديثها النفسي: «إذا لم أسجل الهدف الذي قامت على أساسه عاصفة الحزم، فسأصنع الملعب، وسأختلق الأرض، التي من خلالها أستطيع تسجيل أكثر من هدف، فجزيرة إستراتيجية مثل جزيرة ميون، المطلة على باب المندب، وجزيرة مثل سقطرى الواقعة في المحيط الهندي، وثرائها النادر، وموانئ عدن، وما يمكن أن يوسع رواقي السياسي والإستراتيجي، ولتكن يد الإمارات يدي، وفعلها ليس فعلي، ولسانها مجافيًا، وأنا الساعي لرأب الصدع، ولن يحدث هذا الملعب الجديد، إلا بخلق لاعبين جدد، يدَّعون قضية إنسانية عادلة، ويستميلون الناس إلى عدالتها، ولتكن القضية الجنوبية، واستغلال لاعبيها، بالمال، والمناصب الوهمية، وإشباع جوعهم المتطلع للريال والدولار، ولقضيتهم التي ينشدونها، وتهييء الأجواء السياسية، من استقبال السفراء، واستدبار الفاقة، ومن السفر على مراكبنا وطائراتنا الخاصة، حتى يصبح كذبنا حقيقة، ووهمهم أكثر تحققًا في نفوسهم».
إن هذه اللعبة الخطرة المُضحِكة، الدالة على الضعف والتردد، وعجز السعودية النابع من داخلها، أوردها هذا التعلل البارد، والتخوف اللحظي، لتستمر في تخوفاتها حتى النهاية، كما أن شرفها انقلب إلى عار، وسعيها الصائب تحول إلى خطيئة، ووفاءها بعهدها استحال إلى خيانة، وتخليص الأمَّة اليمنية من المليشيا، أوجد مليشيا أخرى، واحتلالًا أبويًّا لكل مليشيا، فإذا كان للحوثيين مرجعية اسمها إيران، فللمجلس الانتقالي مرجعية اسمها السعودية والإمارات، أما الشعب المغلوب على وعيه، المخلوق من الطبل والوتر، المتمعيش التابع، فلا قامة له ولا قيمة، وأما شرعية فنادق الذل والهوان، فقد ولدت ميتة، وأماتها الآخر أكثر، حتى جفلت في مكانها لا تدري مَن هي، أو ما هي.
لا حل أمام السعودية حصرًا، إلا استكمال ما بدأته بالزخم ذاته، والإرادة ذاتها، ولن تستطيع إيران أن تأذيها أكثر مما فعلت، لأنها وإن استماتت في إيذائها فسيكون ذلك بأدوات مليشيا لا بأدوات دولة، وفي ذلك ما يمكن الصبر عليه، لما هو أكمل، وأجلُّ، وأقدر، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الملعب الجديد المستخرج من كتاب عائض القرني «لا تحزن»: (إذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد، فاعلم أن وراءها رياضًا خضراء وارفة الظلال)، سيتحول إلى كابوس يعصف برأس المملكة، ويعبث بمواردها، ولن تسلم من ذلك الخنجر المعقوف في قلبها (دولة الحوثيين القادمة، بصواريخها وطائراتها، وحقد اليمنيين لاحتلاها، وخيانتها).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست