ليس بإنسان ولا عاقل من لا يعي التاريخ في صدره ومن درى أخبار من قبله أضاف أعمارًا إلى عمره.
هكذا قال حكماؤنا من قبل.
***
الوضع متأزم. الممالك متفرقة متشرذمة. مع كل سقوط للثلج على جبال الأندلس الخضراء تسقط مدينة في أيدي القشتاليين. الخوف يهيمن على بيوت القرى الشمالية. الذُل في كل ممالك الطوائف. الجزية تدفع والحصون تُسلم.
على الجانب الآخر الملك الشاب ألفونسو السادس حديث العهد بالحكم بعد وفاة والده الذي وحدَ مملكتي قشتالة وليون وازدادت قوتهما وخطرهما على المسلمين. تُحاصر طليلطة العاصمة وتسقط بعد صمود لخمسة أعوام والتي لم يهب لنصرتها إلا المتوكل على الله بن الأفطس والذي فشل هو الآخر.
***
الثوب ينسلّ من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسلاًّ من الوسطِ
جن جنون ألفونسو بعد أن قتل المعتمد على الله بن عباد رسله وصلبهم بعدما تعمدوا إذلاله في طلبهم للجزية. حيث طلب أحد الرسل أن تضع زوجة ألفونسو مولودها الجديد في أكبر مساجد أشبيلية. لأنه تم التنبؤ لها أنها إن ولدت هناك سيدين المسلمون بالولاء لولدها.
تحرك الجيش القشتالي فحاصر سرقسطة وممالك بني هود وتوجه وحاصر بني عباد في أشبيلية الذين كانوا حلفاءً له من قبل ضد ممالك المسلمين!
أثناء الحصار كتب ألفونسو للمعتمد كتابًا جاء فيه “كثر -بطول مقامي- في مجلسي الذباب، واشتد علي الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي وأطرد بها الذباب”.
فرد عليه المعتمد
والله لئن لم ترجع لأروحن لك بمروحة من المرابطين. هدد المعتمد بالاستعانة بدولة المرابطين، فخاف ألفونسو وجمع جيشه وانصرف.
قمة على مستوى الملوك
فكر ملوك الطوائف في الكارثة التي توشك أن تعصف بهم وهي سقوط دولة الأندلس، فقاموا بعقد اجتماع يضم كافة أمراء الأندلس وعلماء الأندلس، وأشار العلماء في ذلك الاجتماع بالجهاد، وطبعا عارض الأمراء ذلك الرأي بشدة بحجة عدم قدرتهم على الوقوف وحدهم في مواجهة القشتاليين، فاقترح العلماء مرة أخرى الاستعانة بالمرابطين، فتخوف الأمراء من ذلك الأمر لأن المرابطين دولة قوية ولو هزمت النصارى لأخذت دولة الأندلس وضمتها إلى دولة المرابطين، فتجادلوا كثيرًا حتى قام المعتمد على الله بن عباد وقال خطبة كان آخرها مقولته الشهيرة:
“والله لا يسمع عني أبداً أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعاً لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، والله لئن أرعَ الإبل في المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا”.
فلما انتهى من خطبته تشجع كلٌّ من المتوكل على الله بن الأفطس وعبد الله بلقين، ووافقا على الطلب من المرابطين العون لمحاربة قشتالة، وقام هؤلاء الأمراء الثلاثة بإرسال وفد مهيب من الوزراء والعلماء إلى دولة المرابطين في المغرب.
ودقت طبول الحرب
عندما وصل الوفد إلى يوسف بن تاشفين فرح بهذه الفرصة للجهاد في سبيل الله وجهز سبعة آلاف رجل وجهز السفن وعبر مضيق جبل طارق في الخميس منتصف ربيع الأول 479 هـ/ 30 يونيو 1086، ولكن في وسط المضيق ترتفع الأمواج ويهيج البحر وتكاد السفن أن تغرق فيقف ذليلا خاشعًا يدعو ربه والناس تدعو معه يقول:
“اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحر خيرًا لنا وللمسلمين فسهل علينا عبوره وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره” فتسكن الريح ويعبر الجيش، يدخل يوسف بن تاشفين أرض الأندلس، ويستقبله الناس استقبال الفاتحين ويدخل إلى قرطبة ويدخل إلى أشبيلية، ثم يعبر إلى اتجاه الشمال في اتجاه مملكة قشتالة، حتى وصل إلى الزلاقة في شمال الأندلس، وعندما وصل هناك كان قد انضم إليه من أهل الأندلس حتى وصل جيشه إلى حوالي ثلاثين ألف رجل، وهناك وقعت معركة الزلاقة.
عندما علم ألفونسو بتحرك ابن تاشفين ترك حصاره لسرقسطة وتقدم مع حلفائه لقتال المسلمين، ويوصل بعض المؤرخين عدد جنود ألفونسو إلى 60ألف وفي روايات أنها 100 ألف منهم 30 ألف من عرب الأندلس. عسكرت الجيوش الصليبية على بعد 3 أميال من جيش المسلمين على الضفة الأخرى من نهر جريرو.
قسم الجيش الإسلامي إلى 3 أقسام:
• الأندلسيون في المقدمة بقيادة المعتمد على الله بن عباد وعددهم (١٥٠٠٠)
• الأندلسيون والمغاربة في المؤخرة بقيادة داود بن عائشة أحد قادة المرابطين وعددهم (١١٠٠٠)
• الجنود الاحتياطيون معظمهم مغاربة ويكونون خلف الجيش الإسلامي وهم بقيادة ابن تاشفين وعددهم (٤٠٠٠)
بعث ابن تاشفين رسالة إلى ألفونسو السادس يقول فيها “بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفناً فتعير بها إلينا فقد عبرنا إليك وستعلم عاقبة دعائك وأني يا ألفونسو السادس أعرض عليك الإسلام أو الجزية عن يد وأنت صاغر أو الحرب ولا أُؤجلك إلا ثلاث” فرد عليه ألفونسو “فإني اخترت الحرب فما ردك على ذلك” فقلب يوسف بن تشفين الورقة ثم قال
“الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك والسلام على من اتبع الهدى” فرد عليه ألفونسو في رسالة فيها بعض التخاذل “غداً الجمعة والجمعة عيد للمسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين والسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم والأحد عيدنا فهل يمكن أن نؤجل القتال إلى الاثنين” فتوقع ابن تشفين أن ألفونسو سيغدر به فجهز جيشه كما ذُكر من قبل.
وقعت المعركة في سهل في الجزء الجنوبي لبلاد الأندلس يقال له الزلاقة. يقال أن السهل سمي بذلك نسبة لكثرة انزلاق المحاربين على أرض بسبب كمية الدماء التي أريقت ذلك اليوم وملأت أرض المعركة. تسمى لدى المؤرخين الغربيين بنفس الاسم العربي لها.
هاجم ألفونسو المسلمين ووجدهم مستعدين وقاوموا مقاومة عنيفة واستمرت المعركة حتى العصر ما بين المجموعة الأولى وقوات ألفونسو كلها حتى أرهق كلا الطرفين، فما كان من ابن تاشفين إلا أن أرسل جنوده على دفعات إلى أرض المعركة مما أدى لتحسين موقف المسلمين ثم عمد ابن تاشفين على اختراق معسكر الصليبين ليقضي على حراسه ويشعل النار فيه الأمر الذي أدى إلى تفرق جيش ألفونسو بين مدافع عن المعسكر ومحارب للقوات الإسلامية.
حوصر ألفونسو وبقية جنده ولم يتبق منهم سوى ألفونسو الذي قطعت قدمه في المعركة ورجع معه 450 فارسًا أغلبهم مصابون. هرب الذين تبقوا من جيش ألفونسو ولم يصل منهم إلى طليطلة سوى 100 فارسٍ.
رجع يوسف بن تاشفين إلى بلاد المغرب بعد انتهاء القتال فقد أدى ما عليه وهزم صليبيي الأندلس هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم وأخرت سيطرتهم على الأندلس مدة تزيد عن قرنين ونصف. قام الأندلسيون بمعاودة ما كانوا عليه قبل المعركة فاقتتلوا فيما بينهم وتنازعوا السلطة واستعانوا بالملوك الصليبيين في حروبهم ضد بعضهم.
قام ابن تاشفين باقتحام الأندلس ليزيل الفتنة فيها ويضمها موحدة إلى دولته القوية. ألقى ابن تاشفين القبض على أغلب ملوك الطوائف ومنهم ابن عباد وأتبع ممالكهم لدولته، ونفي ابن عباد إلى أغمات وتوفي هناك وهي مدينة أثرية مغربية تقع على بعد 30 كم من مراكش.
الحقيقة أن المؤرخين جميعا يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصارى، خاصة وأن الملك الإسباني كان قد فقد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحًا تمامًا وممهدًا لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة!
يعلق يوسف أشباخ في كتابه (تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين) على موقعة الزلاقة بقوله:
إن يوسف بن تاشفين لو أراد استغلال انتصاره في موقعة الزلاقة، لربما كانت أوروبا الآن تدين بالإسلام، ولدرس القرآن في جامعات موسكو، وبرلين، ولندن، وباريس!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست