فيما يشبه المرادف لكلمتي “بلطجي” المصرية أو “شبيحي” السورية (في معناهما السياسي)، يتخذ معنى المخزن أو “المخزني” بعدا سلبيا، وقدحا ـ في الغالب ـ في الوسط السياسي المغربي، حيث أصبح نعت المخزن مرادفا في العادة للفساد والقمع والاستبداد وكل أشكال التسلط داخل النظام السياسي والاجتماعي، لكن هل المفهوم فعلا سيئ لتلك الدرجة التي أصبح فيها بمثابة “سبة”، واتهام سياسي لأي شخص، أو تيار حريص على الدفاع على النظام، أو على مصالح تلك الفئة التي يطلق عليها عادة الدولة العميقة؟

 

فما معنى أن تكون مخزنيا إذا؟ لماذا كلمة “المخزني” كانت إلى الأمس القريب تشير إلى الهيبة والمكانة الاجتماعية المرموقة التي يسعى الجميع للوصول إليها؟ وكانت فيما يشبه المرادف لمعنى النبالة في معناها الأوروبي، وما كانت توفره لصاحبها من سلطة رمزية واجتماعية كبيرة، بينما أصبحت اليوم ذلك النعت الذميم المنبوذ سياسيا وأخلاقيا، والذي يحرص الجميع للحيلولة دون ارتباط اسمه به، وأصبحت لصيقة بمعنى السياسي الفاسد والأمنجي، والمستفيد من الريع، والناهب لأموال الشعب والفقراء … وغيره.

 

غداة صدور مذكرات الأمير المولى هشام بن عبد الله “الأمير المنبوذ”، وخلال استضافته على قناة فرانس 24، حيث إنه في معرض حديثه عن كتابه قال جملة في غاية الحساسية، لكن لم ينتبه أو يقف عندها الكثيرون، لكنها في حقيقتها تعني الشيء الكثير والكثير، حيث في لحظة انفعال وتوتر شديدين، تحكيهما علامات التغير على الوجه، ونبرة الصوت العالية وحركات اليدين المتسارعة ، قال: “أنا أعرف أن المخزن حيوان”.

 

فماذا كان يا ترى يقصد الأمير بالمخزن، وماذا يقصد بالحيوان من كلامه؟ هل يمكن أن يكون نفس المخزن الذي تجلده المعارضة الراديكالية كل يوم في خطاباتها وشعاراتها السياسية؟ أم أنه ذلك المخزن الذي تفتخر الكثير من العائلات العريقة اليوم في المغرب بأنها كانت ولم تزل خادمة ومطيعة لسدته العالية؟ أم أنه هو ذلك المخزن الذي يستنجد به المواطن البدوي البسيط عندما يجد أن كل السبل قد سدت في طريقه، ولن يجد من ينصفه في مظلوميته سواه، مرددا تلك الجملة الشهيرة: “إوا المخزن راه كاين فالبلاد راه ماشي السيبة هذه..”.

 

على العموم الجواب عند الأمير؛ فهو يعرف من كان يقصد، والآخر المقصود يعرف أنه يعرفه، وأن الخطاب موجه إليه دون سواه؟

لكن من هو هذا “المخزن” الآخر إذا؟ لماذا لم يستطع احد إدراكه أو تحديد معناه بدقة اليوم، وبقي مفهوما غامضا هلاميا كالسراب الذي لم يستطع أحد تلمسه أو التقاطه؟ ثم هل المخزن كما نسمع ونراه في الإعلام؟ أم هو المخزن الواقعي والحقيقي فعلا؟ ثم لماذا أصبح هذا المفهوم ذا حمولة سلبية، وغير محمودة في الوقت الراهن، بعد أن كان إلى الأمس القريب بمثابة ـ الوسام – الذي يحرص الجميع على التباهي والتفاخر به على الملأ في كل مناسبة تتاح بذلك؟ ثم هل هذا الغموض والضبابية التي نجدها في المفهوم يخدم السلطة السياسية؟ أم أنه يخدم خصومها وأعداءها؟ أم أنه في حقيقته يخدمهما معا؟

 

لو سألت أي مغربي اليوم، فلن يستطيع أحد أن يجيبك حتما عن السؤال الأول، ليس لصعوبته فقط، لكن، ولأن نعت ومفهوم “المخزن” صار مصطلحا خياليا متعدد الأبعاد أكثر مما هو واقعي، إذ ببساطة لا يمكن التحديد بالضبط أو بدقة معنى المخزن كما هو متداول اليوم، لأن حتى تمثلاته الاجتماعية والسياسية تختلف من فرد لآخر، وحسب المستوى العلمي والانتماء السياسي، وحتى الاجتماعي …، كما أن حمولة المفهوم تختلف كذلك موقع لآخر، ومن وسط لآخر كذلك، فالمخزن أو المخزني، عند السياسي المعارض ليس هو نفسه عند السياسي الموالي، وإنه ليس هو نفسه عند المواطن العامي البسيط، وأيضا، المخزن في المدينة ليس هو المخزن في البادية.

 

عاد مفهوم المخزن للتداول بقوة بعد ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة، والتي وصل تأثيرها إلى المغرب، حيث اتخذته المعارضة ـ خاصة الراديكالية (جماعة العدل والإحسان، اليسار الراديكالي ، شباب 20 فبراير …) ـ  كنعت لانتقاد رأس النظام ومنظومة الحكم بشكل عام، فيما يشبه في ذلك السعي للتحايل عن تلك الخطوط الحمراء المرسومة لحرية التعبير من التي لا يسمح أو لا يتساهل مع من يتجاوزها.

 

لذلك استخدم لفظ المخزن أو المخزني بدلا من لفظ الملك أو الملكي في الخطاب السياسي لهذه التيارات، للتعبير عن مطالبها وإيصال أصواتها السياسية المعارضة للنظام وسياساته، وذلك من قبيل ( ديكتاتورية المخزن، قمع مخزني، تسلط المخزن، سياسة المخزن، فساد المخزن … إلخ)، إذ إن معظم هذه النعوت غالبا ما تكون موجهة في حقيقتها إلى الملك مباشرة، ولانتقاد سياسته، وفساد المحيط المرتبط به، لكن فيما يشكل – التفافا وتحايلا على الخطوط الحمراء  الممنوع تجاوزها ـ فرض ذلك على المعارضة استخدام الكلمة الأولى بدلا من الثانية.

 

وهذا ما مكنها ضمنيا من التعبير عن خطابها بشكل علني، وعلى الساحات العامة، مع ضمان عدم التعرض للملاحقة أو الاعتقال، ما دام ذلك لم يكن فيه تجاوز لتلك الخطوط (فيما يشكل اتفاقا غير معلنا)، وهذه الصيغة، وان كانت غير سيئة للمعارضة، فهي كذلك للنظام أيضا؛ لأنها على الأقل تكف عنه ذلك الحرج الذي يخدش تلك الصورة التي يسعى دوما للظهور بها خارجيا، كنظام حريص على صون حرية التعبير واحترامها، حتى وإن كانت موجهة ضد النظام نفسه.

 

لذلك ـ وبشكل عام ـ نجد أن المخزن عند السياسي المعارض ـ أو الشخص الناقم على النظام السياسي ـ غالبا ما يدل معناه على القمع والفساد والتسلط السياسي والاستبداد واستغلال النفوذ … وغير ذلك، بينما يدل عند السياسي الموالي ـ في الغالب ـ على الوطنية والدور الرائد للملك، كأمير المؤمنين، وضامن الاستقرار، والناهض باقتصاد وتطور البلاد وازدهاره … إلخ. بينما يدل في العادة عند المواطن العامي البسيط ـ خاصة في البادية ـ على الأمن والنظام وسلطة الدولة التي تعتبر بمثابة الضامن لحقوق المظلومين و”المحتقرين”، خاصة من لا سند  ـ قبلي ـ أو ثقافي لهم.

 

لكن الملاحظ أيضا أن تمثلات المفهوم في الخارج ـ ربما ـ كانت أكثر واقعية، وشمولية من الداخل، فحتى وإن كان الأمر بوعي أو بدونه، (وإن كان يحافظ على نفس الحمولة السلبية)، فإن توظيف العديد من الأطراف من خارج المغرب للمفهوم غالبا لا يقتصر على شخص الملك فقط، بقدر ما يشمل في العادة بعض المؤسسات الأخرى في الدولة ذات الارتباط المباشر بالقصر كالجيش، والمخابرات، والعائلات الكبرى، والأحزاب الموالية للنظام، وكبار الأثرياء … وغيرها.

 

وهذا ما يظهر مثلا في الخطاب الإعلامي عند الجارة الجزائر، أو في إعلام الانفصاليين الصحراويين، حيث غالبا ما يكون توظيفهم للنعت مرادفا لفعل إحدى المؤسسات القوية السالفة الذكر، مثلا من خلال عناوين الصحف والمواقع نجد عبارات وصيغ من قبيل “السياسات العسكرية المخزنية التوسعية”، (كما يحلو لإعلام أشقائنا الجزائريين أن يطلقه على حقوق المغرب الترابية)، أو مثلا: “مخابرات المخزن تسعى لتصدير الإرهاب أو المخدرات للجزائر”، أو نجد مثلا “أحزاب المخزن تشن هجوما على سياسة الجزائر”… أو غيرها من تلك العناوين التي نجدها عادة في صحافة النظام الجزائري.

 

لكن السؤال الآخر المطروح هو: ما هي أصول هذا المفهوم؟ ولماذا أصبح اليوم ذا حمولة سلبية، بعد أن كان إلى الأمس القريب فقط يحيل على العكس تماما؟ فكيف تطور إذا مصطلح “المخزن” ليأخذ هذه الصبغة التي عليها اليوم؟

 

استعمل لفظ “المخزن” تاريخيا لأول مرة في شمال إفريقيا، في بعده الرسمي من خلال القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، لنعت صندوق حديدي يخزن فيه مجموع الأموال التي تحصل من الجبايات؛ بغية توجيهها إلى الخليفة العباسي ببغداد.

 

ثم أصبح بعد ذلك يدل بشكل عام على مجموع التنظيمات الإدارية التي تشكلت بفعل الضرورات الداخلية المتمثلة في الحفاظ على الأمن وتحصيل الضرائب، والتأثيرات الخارجية المرتبطة بالتزامات السياسة الخارجية، وهو ما أضفى على المخزن تدريجيا شكل مؤسسة سياسية حقيقية.

 

ومع مرور الوقت كذلك، تم شحن لفظ المخزن بمعاني ودلالات ليست بالضرورة لنعت مؤسسة معينة، بل أضيفت إليها عناصر انتزعت من حقلها الاجتماعي لتطعيم مؤسسة المخزن، التي أصبحت في تمثل المغاربة مبدأ السلطة أو عنوانها، حيث شمل مفهوم المخزن كل طرف له علاقة مباشرة بالسلطان الحاكم: (الجيش، خدام البلاط، الشرفاء، شيوخ القبائل،  قبائل الجند، والمرابطين المنتشرين بالبوادي، وكل من يحصل على مظاهر التوقير والاحترام من السلطان)، كما يورد في ذلك المؤرخ عبد الله العروي.

 

مع دخول الاستعمار الفرنسي، وعلى غير العادة، كما في البلدان التي تتعرض للاحتلال، سعت فرنسا إلى الحفاظ على نفس البنية السائدة للمخزن بدلا من هدمها، أي الحفاظ على نظام مخزني يقوده السلطان، ويتحكم اسميا في النطاق الترابي بما فيها القبائل المتمردة، لأن ذلك كان يوفر للاستعمار الاستقرار النسبي في تلك المناطق، عكس تواجدها المباشر الذي يثير حفيظة السكان في الغالب ويثير تمردهم، وسعت فرنسا كذلك إلى إحداث تحسينات حديثة عليها، شملت بعض الأجهزة الإدارية والقوانين العصرية المنظمة لها، لكن مع تخلصيها من المضمون؛ إذ إنها كانت اسميا تابعة للسلطان، وفعليا خاضعة وتحت سيطرة المقيم العام الفرنسي، بما فيها السلطان نفسه.

 

خلال فترة الاستقلال، وعلى غير العادة كذلك، لم يسع النظام السياسي في المغرب إلى إحداث تغيير كبير على الهيكلة التي خلفها الاستعمار للمخزن، إلا أنه اتخذ معنى ضيقا أكثر، وذلك باستبعاد القبائل والصلحاء وشيوخ الزوايا وغيرهم، ممن لا تأثير مباشر لهم في الخريطة السياسية لمغرب الاستقلال.

 

وبدلا من ذلك أصبح المفهوم مقتصرا فقط على الأجهزة ذات الارتباط المباشر بالملك والقصر، ثم أصبح بعد ذلك يحيل على الأجهزة والمؤسسات التي أحدثها القصر للسهر على حماية الأمن العام وحماية الحدود: (الجيش، الأمن الوطني، المخابرات، الدرك، وزارة الداخلية …)، وتعتبر هذه المرحلة بالذات هي البدايات الأولى لتكون وتشكل الصورة السلبية عن المفهوم، إذ إن الأجهزة السالفة الذكر، هي التي كانت ساهرة على عمليات القمع والتعذيب والتصفية الجسدية للمعارضين والرافضين لسياسات النظام، حتى أصبح معه مفهوم المخزن مثيرا للرعب والخوف لدى معظم المواطنين المغاربة، خاصة خلال فترة ما يسمى بسنوات الرصاص.

 

لكن مع تطور الوقت كذلك وخلال المرحلة الراهنة على الخصوص، دخلت عناصر أخرى ليشملها المفهوم، وهي الأحزاب السياسية المرتبطة بالقصر أو ما يصطلح عليه في العادة “الأحزاب الإدارية” أو “أحزاب الداخلية”، (الأصالة والمعاصرة، التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الدستوري …)، نضيف إلى ذلك زملاء الملك في الدراسة ممن كونوا نفوذا سياسيا واقتصاديا في دواليب الدولة، ثم كذلك كبار العائلات الغنية الجديدة ممن تجمعها مصالح اقتصادية بالملك أو بالحاشية المقرب منه، وفئات أخرى دخلت إلى هذه الحلقة عبر المصالح التي تجمعها بهذه الفئة، أو أيضا عن طريق شبكات المصاهرة والزواج، وهو العنصر الذي مكن شخصيات وتيارات في مجالات مختلفة جديدة للدخول إلى عالم المخزنة.

 

وبذلك أصبحت كل هذه العناصر تجمعها نفس المصالح والغايات داخل حلقة وحقل واحد، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى الحفاظ على امتيازاتها فيه، وعن مصالحها المشتركة.

 

وبهذا، فالمخزن يمكن أن نعتبره منظومة معقدة، تتكون من الأشخاص والمؤسسات ممن تربطها بنية من العلاقات والمصالح عبر شبكات متداخلة ومختلفة، ونجد تواجدا لها داخل كل القطاعات، وفي كل أركان المجتمع دون استثناء، بما فيها المعارضة نفسها، إذ هناك أيضا معارضة مخزنية، وهي تلك الأطراف التي تنتقد من داخل الحلقة نفسها (وإن كانت في الغالب تكون شخصية أكثر مما هي مؤطرة).

 

وبهذا يكون المخزن من هذا المنظور وبكل مكوناته وتركيبته تنظيما لا يمكن للملك أن يستغني عنه إذا أراد ضمان استمرار سلطته. فالمخزن جماعة تتولى مهمة تنفيذ الأوامر وخدمة القصر، مقابل الاستفادة من الرعاية والالتفاتة المخزنيةفهي بذلك تشكل صمام أمان، وتساهم في إضفاء الشرعية على سلطة الملك، وفي تثبيتها، ويجمعهما مصلحة (المصير المشترك).

 

فكل ما يدخل إذا، أو يشترك في مصلحة مع هذه الشبكات، التي يشكل الملك فيها المركز الذي تتوزع عليه السلطات، فإنه يدخل بشكل تلقائي ضمن دائرة المخزن والمخزني، وإن كان ذلك لا يعني أن هناك طرفا وحيدا يمكن أن يقرر فيها ما يريد، بما فيه الملك نفسه.

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد