جُلّ التخصصات والدراسات والبحوث المُقَدَّمَة مِن علم النفس، والاجتماع، غالبًا ما تتحدث عن حيِّز ضئيل جدًّا من هذه الخصومات المتزايدة؛ لأننا ببساطة أصبحنا نعيش بشكل دائم، أطوارًا دقيقة وحاسمة، مِن مراحل تشكيل المجتمع الحديث، بالاعتماد على تعريف الحق العام والخاص، المرتبط في أصله بأمور متنوِّعة، تنساق كُلِّيًّا وراء مبدأ الفوز أو الخسارة مِن جِهة، أو الفلسفة والأخلاق مِن جهة أخرى، خصوصًا التي تخص منها الشرعية، أو تتعلَّق بها في سَفَاسِف الأمور وَعَلْيَائهَا، وهذا ما سيَجْلِبُ للواقع رؤى ومناهج مختلفة ألوانها. جانب آخر بارز من مصطلح الصراع؛ هو دلالته السلبية، إذ لا يوجد تعريف أكثر منه خطورة على الإطلاق، يستحق التحليل والمراجعة؛ لأنه عادة ما يُنظر إليه، على أنه شيء سلبي جدًّا. نعم؛ هو كذلك، وبالفعل وضع مزعج، غير مقبول وغير مريح بتاتًا، وتهديد مؤلم ومدمر، ينبغي تجنّبه. يضع الجميع في مجال مواجهة دامية، لا نتمنَّى صادقين ولا نرجو حدوثها أبدًا.
لتبسيط النظرية أكثر، وتقريب المعنى إلى أذهاننا أكثر فأكثر، سنضرب مثالًا على هذه الصراعات الصِّفرية، وستكون بالفعل كلعبة الشطرنج، إذ يُتوَّج فيها الفائز بالرُّقعة، بينما الخاسر يفقد كل شيء، ولكن؛ في مثل هذه الحالة البسيطة، وعلى هذا المنوال، لن يكون هناك سوى صِفر، لَاسِيَّمَا إذا عُزل النزاع عن الاعتبارات الإنسانية؛ لأنه ربما يكون الأمر نفسه، كاللعب مع طفلك الصغير من أجل تعليمه، وربما يجب عليك أن تسمح له بالفوز كذلك، لتحفيزه تارَةً، وتحسين قدرة التنافس لديه طَوْرًا. ومع ذلك فإن تعقيد القضية أحيانًا، يلح ويستدعي الحاجة إلى رؤية متعددة، تدفع إلى دراسة هذا الصراع من منظور متعدد التخصصات، بحيث يصبح مصطلح الصراع، ليس له تعريف واحد وفريد، فهناك الكثير من التعريفات، التي قد نستطيع الاستعانة ببعضها؛ ومنها نقول في ما معناه: إن أي مواجهة مُحتملة بين خَصْميْن أو أكثر، سيكون حتمًا بينهم عَدَاء، أو أن أحدهم أو كِليهما مدفوع للمواجهة فقط مِن أجل المال أو المصالح.ثم نجد كذلك أن المواقف التي يدخل فيها شخصان أو أكثر في معارضة أو خلاف سيكون إمَّا بسبب مواقفهم، وإما قيمهم، وإما مصالحهم وتطلعاتهم، وإما رغباتهم واحتياجاتهم التي ستكون أكيدًا، ثابتًا، مؤكدًا، ويقينًا غير متوافق عليها، أو على الأقل ينظر إليها من باب الريبة والشك. كما يمكن أن تكون عملية إدراكية وعاطفية يرى فيها هؤلاء المتناحرون أهدافًا غير متوافقة ضمن علاقة الترابط والرغبة في حل خلافاتهم السلطوية.
أمَّا عِلْم الاجتماع، اهتم بجرد أساليب المعارضة، أو المواجهة بين المجموعات الاجتماعية، أو بين أعضاء المجموعة نفسها، التي تنشأ لأسباب مختلفة، وُلِدَت وتنمو وتتطور إلى هَيْمَنَة واقعية لتفاعلات عدائية. كالصراع على السلطة، أوالوضع الاجتماعي، أوالحاجة إلى فرض الأفكار، وأيضًا من أجل امتلاك الثروة. إذ تسعى جميعها، إلى تحقيق المزيد من الأهداف والامتيازات، دون أن ننسى الإلغاء المقصود، مع سبق الإصرار والترصد، أو التحييد الكُلِّي لمصالح المنافسين الأعداء، مع احتمال التدمير، عند حصول الاصطدام، وغياب الوازع الديني، وانعدام القيم الإنسانية. لكن الصراع لا يعبر دائمًا عن نفسه بالقوة. إذ يمكن أن يكون بمثابة تقديم مباشر، أو استجابة غير مباشرة لنداء أحد الأطراف، لتجنب المواجهة، ولو من جانب واحد. ولهذا لا يجب أن تكون نظرتنا إلى النزاعات دائمًا سلبيَّة تشاؤمية؛ بل بإمكانها خلق حلول تشاركية، والعمل كعنصر تكامل فعال داخل المجموعة، التي يمر فيها مشروع الحل الإيجابي لهذا للنزاع، بواسطة عمليات تواصل مَرِنَة في طرحها منسجمة في مضمونها، راقية في تعاملها وتقييمها للوساطة، مِن أجل تحديد وتحييد عناصر النزاع كعملية تفاعلية.
نعتقد جازمين أننا اليوم وقبل أي وقت مضى في أمسِّ الحاجة إلى معرفة علمية مُدَلَّلَة، وإدراك منطقي عقلاني لمفهوم الصراع؛ حتى يتسنى لنا جميعًا تعقُّله بالحجج اليقينية، والبراهين العِلميَّة، العَمليَّة، للوقوف على حقيقته الفكرية، وأنه ليس شيئًا جيدًا، ولا سيئًا بحد ذاته، لكنه واقعي وطبيعي ومِن الحياة البشرية، متأصل في التفاعل الإنساني. رغم أنه من وجهة نظر سلبية يرتبط دائمًا بالعنف، والإلغاء، والتخويف، والتخوين. لكن الشق الإيجابي فيه يسمح له بفتح مساحات شاسعة من التفكير والبناء، وزيادة تطوير قنوات الحل، وتحسين وتجديد العلاقات، داخل الحياة الأسرية، التي غالبًا ما تسمح بتصور الأسباب الهيكلية كتحصيل حاصل لحركة الأشخاص.
ولهذا عزيزي الفائز، لا تفرح كثيرًا؛ فسواء كنت اليوم من الفائزين، أو أصبحت غدًا من الخاسرين، ومهما تَفنَّنت، وخططت وناورت، فإن النهاية تكون دائمًا صادمة وحاسمة، وغير متوقعة، لكنها حقيقية جدًّا ومنطقية. تتحكم في المشهد بِرُمَّتِهِ، بَل في الوجود كلهِ. فهنيئًا لكم، ولِمن لَعب في جولاتِ حياتهِ الفانية أو سيلعب في أشواطه المُتبقِية بحب وأمانة وشرف وصدق.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست