ما الذي يكبح الجزائري عن الثورة ضد قانون إعدام العربية والعقوبات المالية؟ ما المانع من رفض الجزائري لقانون تعميم بيع الخمر وقضايا الاختلاس والفساد والتعبير عن ذلك في الشارع؟ لماذا لا يخرج الجزائري في مسيرات ومظاهرات للمطالبة بحقوقه مثل بقية شعوب العالم أو الاعتراض على سياسة ترهن حقوقه وسيادته؟ لماذا الجزائري لا يتعاطى مع السلطة أو المعارضة ويقف في حياد سلبي مع كل المبادرات والرهانات السياسية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه عبر هذا المقال الذي يحمل خماسيات الامتناع، وتبيان الأسباب العامة حول هذا الانقباض السياسي لدى الفرد الجزائري!
فمنذ سنوات قليلة، يعيش الجزائريون على واقع أخبار مؤلمة وتجارب مثيرة للثورات العربية ومسارات التحول الديمقراطي الصعب، فلتجربة تونس على الحدود الجزائرية شرقا اختلاف عميق مع تجربة المغاربة في القبول بالإسلاميين على مستوى الحكم وتقدم عبد الإله بن كيران في الانتخابات، كما أن تجربة ليبيا بالرغم من الاقتتال الحاصل بها ليس لها أي وجه تشابه مع الأزمة في مالي التي تسعى الجزائر جاهدة لإخماد ثورة الازواديين بقيادة فرنسا في المنطقة، بالإضافة إلى التجربة السورية واليمنية الدامية وما حدث من احتباس سياسي وانقلاب عسكري وانهيار اقتصادي في مصر.
كل هذه التجارب، خاصة ما يجري بمنطقة الشمال الإفريقي والمحيطة بالجزائر تجعل الجزائريين على تخوف وحذر لكل خطوة داخلية وتشكيك لأي تحرك يرفع من سقف المعارضة تجاه النظام والسلطة بشكل عام، خاصة مع الاعتداء الإرهابي على تيقنتورين والذي شاركت به جنسيات عديدة، وأحداث الجنوب التي تعتبر سابقة خطيرة في التاريخ الحديث للجزائر (لم يحدث هذا في عز الأزمة الأمنية(.
سندرس عبر هذه الأسطر القليلة دوافع امتناع الجزائري من الخروج للشارع رغم التشابه الكبير في النظام مع العديد من الأنظمة التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي (المصري والسوري)، وظروف سياسة التقشف وظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية التي تشمل جميع ولايات الوطن. وللاشارة يتفق جل الجزائريين تقريبًا حتى الأصوات المتطرفة في المعارضة على تجنب الدعوة إلى إقامة ثورة سياسية تطيح بالنظام القائم بشكل أساسي، فأكثر الناس تطرفًا يدعون النظام للتنازل والحوار والاتفاق على انتقال ديمقراطي سلس وهناك من يدعو الجيش للتدخل وإنقاذ البلد، رغم إدراك الجميع أن الجيش كان في وقت سابق طرفًا في الأزمة وصانعًا لها بتدخله في السياسة ووقوفه لطرف ضد آخر (انقلاب 92).
خماسية مناعة الجزائري من الخروج إلى الشارع هي عبارة عن مؤشرات تتكون من سياسات تتعمدها أحيانا السلطات بالجزائر للوقوف أمام أي حركة تغيير خارجة عن إرادة السلطة القائمة، وبعضها يعود إلى مسار تاريخي عاشه الجزائري ويعيشه المواطن العربي حاليًا (الثوري) يتم استغلاله واستثماره بترويج سلبي وتحذيري تخويفي عبر مختلف وسائل الإعلام، وأخرى عبارة عن ضعف وهوان يميز النخبة تستثمر فيه السلطة كامل قواها حتى يدوم الحال على ما هو، وهذه المؤشرات لا تعرقل خروج الجزائري للشارع فقط وإنما تقف حدًّا فاصلا أمام أي فرصة للتغيير سواء كانت إرادية من النخب أو عفوية أو اضطرارية للنظام ليقدم تنازلات ويجرؤ على إصلاحات عميقة تناسب المحيط الإقليمي وتجنب البلاد خطر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية القادمة.
أولا: الأزمة الأمنية والثورات العربية
إن الأزمة الأمنية التي مرت بها الجزائر لا تعني فقط مائتين وخمسين ألف قتيل ومئات الآلاف من المشردين والمصابين والمعطوبين فقط، وإنما هي أزمة ذات تأثير عميق على بنية المجتمع بالكامل، فقد غيرت من ذهنية المجتمع وسلوكه ونظرته للحياة، وأحدثت تغييرات في التركيبة المجتمعية وقناعات بالجملة للأفراد، سياسة الأزمة الأمنية التي خطط لها النظام ونفذها تطرف الجماعات الإرهابية جعلت من الجزائريين اليوم يتخوفون من أي خطوة تجاه هذا النظام، فالسلطات في الجزائر تستعمل خطابًا تخويفيًّا وإرهابيًّا يحول دون أي تحرك بالشارع وهذا ما حدث مع مرشح الرئاسيات علي بن فليس، ومع حركة بركات التي ناهضت ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رابعة وتم تخوينها وربطها بالأيادي الخارجية وتلقي دعم غربي لزعزعة الاستقرار وكذلك مع حركات ومبادرات سياسية كرفض و8 ماي، وتعاملت السلطات مع احتجاجات الجنوب ومسيرات ولايات ورقلة وعين صالح وغرداية بنفس الأسلوب من أجل شيطنتها وإبعادها عن وظيفتها الحقيقية، وهذا التخوف نابع من مشاهد الأزمة الأمنية التي دامت لعشرية كاملة عانى منها الجزائري الدمار بكل أنواعه وأشكاله.
كما أن مشاهد بلدان الثورات العربية التي آلت إلى الدمار مثل ليبيا وسوريا واليمن، جعلت الجزائريين أكثر تمسكا بالاستقرار وتخوفا من رياح الربيع العربي التي أكلت الأخضر واليابس، وساعد في هذا التسويق أحداث غرداية التي أعادت إلى الأذهان مآسي العشرية السوداء سنوات التسعينات، ولعل من أهم صمت الجزائريين تجاه ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة هو الخطاب الأمني الذي رافق حملته ومآسي الثورات العربية التي جعلت حتى قناة الجزيرة تتراجع بشكل كبير مشاهدة بعدما كانت من أكثر القنوات متابعة بهذا البلد.
كما أدت الأزمة الأمنية إلى إعلان حالة طوارئ منذ عام 1992 وحتى السنوات الأخيرة فقط ألغي هذا القانون الذي كان معممًا عبر كامل التراب الوطني، ودام منع المسيرات وعدم الترخيص للمظاهرات بالعاصمة الجزائر إلى الآن، حتى وإن دفعت الأحزاب أو الجمعيات طلب ترخيص مسيرة أو وقفة يتم رفضها وقمعها في حال قيام مناضلين أو نشطاء بذلك، وهذا ما شاهدناه في مسيرة الغاز الصخري لقادة المعارضة وسط الجزائر العاصمة.
ثانيا: الاستقالة الجماعية عن خدمة الشأن العام
عندما نتحدث عن الشأن العام نعني السياسة كنقاش وممارسة، وكل ما له علاقة بالدولة وممارسات مؤسساتها وهيئاتها، خدمة المجتمع وما له علاقة بالعامة، الجزائري أصبح منعزلًا وصاحب موقف حيادي سلبي في غالب الأحيان، وانتشرت حملات في وقت سابق من تنظيم جهات للموالاة (أجهزة السلطة) كحملة “خطونا يا عرب” في إشارة إلى رفض الجزائريين لثورات الربيع العربي، وكذلك سياسة “خاطيني البوليتيك” والتي تعني “لا علاقة لي بالسياسة” وهي الذهنية التي سادت الغالبية من الجزائريين وأصبحت “البوليتيك” وممارستها والنضالية في حزب أو هيئة سياسية سلوكًا ممقوتًا وله سمعة سيئة بين الجميع، حتى العمل الخيري لا يجب أن يمارسه سياسي أو متحزب.
الجزائري أصبح لا يرتبط بالعمل السياسي حتى وهو يدرك أن ذلك المنتخب والبرلماني ورئيس البلدية سينعكس مستواه أو فكره أو تحزبه على حياته الفردية والجماعية خلال الفترة التي يقضيها كمسؤول، الجزائري أصبح يكفر بالسياسة ويحتج في الوقت الذي تتأزم فيه الأوضاع وفقط! الجزائري يقاطع الاستحقاقات الانتخابية بشكل عفوي، فالحزب الحاكم بالجزائر لا يمثل سوى مليون ونصف المليون صوت فقط من بين عشرين مليون ناخب، كما تعتبر الأوراق البيضاء والملغاة هي الحزب الفائز الأول بحيث يتجاوز عدد المصوتين للحزب الحاكم “الألفين”!
ويساهم التزوير بشكل كبير جدًا في القطيعة بين المواطن والسياسة، فالتزوير الذي حدث في 95 و97 وبعده في الكثير من الاستحقاقات، وعدم قدرة الأحزاب على حماية أصواتها في عز الأزمة الأمنية، يجعل المواطن يفقد الثقة في الصندوق وهو ما يفسر المقاطعة العفوية التي يمارسها المواطن الجزائري مع أي استحقاق انتخابي.
ثالثا: شراء السلم الاجتماعي
تعرف الجزائر عبر كامل ترابها الوطني خلال العام أكثر من خمسة عشر ألف احتجاج سنوي، وهذا حسب إحصائية قدمتها السلطات نفسها إلى وسائل الإعلام، ورغم ذلك تخمد الاحتجاجات شراء المحتجين أو من خلال توزيع المساكن وإقامة مشاريع تجارية غير مدروسة بالمنطقة لامتصاص البطالة عبر الإعلان عنها، كما أن تدعيم المواد الأساسية لا زال معمولًا بها في الجزائر منذ عهد الاشتراكية الذي أقامه الراحل هواري بومدين، ولا زال الاقتصاد الجزائري قائمًا على الربع النفطي بتوزيع الثورات دون سياسة اقتصادية واضحة وهو ما سيؤثر على الوضع الاجتماعي والاقتصادي بالضرورة عند انخفاض أسعار النفط بالسوق الدولية. الجزائر بهذه السياسة رفعت الكثير من أجور الموظفين وبقطاعات عديدة استجابة للاحتجاجات التي عرفتها في الفترة الأخيرة (2004 – 2014).
إن سياسة شراء السلم الاجتماعي التي اعتمدتها الدولة نابعة من أسعار البترول المرتفعة لعشر سنوات كاملة، خاصة مع وصول الرئيس بوتفليقة للحكم، وحققت الجزائر من خلال هذا الارتفاع فائضًا ماليًّا معتبرًا جعلها تقرض صندوق النقد الدولي وإعانات لدول إفريقية عديدة، هذه السياسة الاجتماعية ستجعل الدولة أمام خطر كبير في المستقبل القريب الذي يعرف انهيارًا كبيرًا لأسعار البترول منذ فترة غير قصيرة، إن السلطات الحالية بسياستها وضعت المستقبل الاجتماعي للجزائريين أمام خطر كبير لا يحتمل القسمة على اثنين، فانهيار الدينار الجزائري وسياسة التقشف المعتمدة ستدفع الجزائري حتمًا لاعادة سيناريو أكتوبر 88 وهو التخوف الكبير للطبقة السياسية حاليًا.
رابعا: ضعف العمل النقابي
لا يمكن الحديث بالجزائر عن النقابات، النقابة بالجزائر تعني البزنس وهي “المتاجرة” بجهود العمال أو الطلبة وغير ذلك، ويعرف على أن الذي يقود الثورات والتغيير في أي مجتمع أو بلد هو النقابات الطلابية والعمالية، لأنها تمثل فضاءات الدفاع عن الحقوق المعنوية والمادية وتصقل الشخصية النضالية في منتسبيها، أما بالجزائر فلا يذكر كنقابة على المستوى الإعلامي حضورًا سوى نقابات التربية التي تحرك حسب الأهواء السياسية لجهات معينة وفقط للمطالبة بزيادة الأجور، وهو ما خلف استياء لدى المجتمع خوفا على مصير أبنائهم في التعليم.
وتحولت أكبر منظمة جامعة للنقابات العمالية “الاتحاد العام للعمال الجزائريين” إلى جهاز لدى السلطة يوظف في الانتخابات الكبرى مثل الرئاسيات لدعم برنامج رئيس الجمهورية، والبقية لا تعرف أي حراك خاصة مثل نقابة الصحفيين غير الموجودة بالميدان ولم تتحرك رغم التضييق الواضح على حرية التعبير والاعتقالات التعسفية في حق الكثير من الصحفيين والمدونين وغياب قانون يضبط السمعي البصري.
إن ضعف العمل النقابي راجع كذلك إلى تراجع قيمة النضالية والدفاع عن الحقوق بشكل عام في الجزائر، وحتى العمل الحقوقي والإنساني لا يصنع الحدث رغم حالات التجاوز القانونية في الكثير من المرات سواء ما تعلق بالنشطاء أو الصحفيين بشكل عام، هذا الضعف النقابي أو النضالي العام ينعكس بصورة سلبية على هيئات المجتمع المدني ويُلمس منه ضعف الحراك المجتمعي بالبلد.
خامسا: المشهد السياسي المشوّه
يقول الباحث والأستاذ ناصر جابي إن زعماء الأحزاب والشخصيات السياسية الحالية هي من الجيل الثاني الذي يحترم الجيل الأول الممثل للشرعية الثورية وصانع القرار في الجزائر، ولا يتمكن من قول “لا” بصوت عال وليست له القدرة الكافية على إيقاف صاحب الشرعية الثورية ومن يحكم البلد بهذه القوة التاريخية، ومن خلال طرح ناصر جابي ندرك أن النخبة السياسية في البلد أنتجت مشهدًا يتميز بالجبن والرضوخ لسياسة الأمر الواقع.
كما أن تدجين الأحزاب السياسية وصناعة صور انشقاق وصراع مصالح واختراقها لفترات طويلة، وتسويق قصص التسلق والمتاجرة بجهود المناضلين واستغلال المناصب كالبرلمان والوزارة للمصالح الشخصية، حيث عملت وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في نقل مثل هذه الصور إلى القارئ والمشاهد حتى ارتسمت صورة سوداء على العمل السياسي، وتراجعت القيمة النضالية بشكل كبير جدًا حتى داخل الأحزاب نفسها، فاختفت صور العمل الحواري السياسي والندوات السياسية والمؤتمرات الكبرى ماعدا لحزب أو اثنين فقط والتي بقيت وفية لتقاليد مؤسسيها، وهي بدورها اهتمت بالعمل الدعوي والتربوي في شؤونها العامة على حساب العمل الحزبي الخادم للمجتمع.
ان هذه الخماسية التي تشمل الجوانب الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المذكورة في هذا المقال، ما هي إلا وصف لواقع يعيشه المواطن البسيط المحصور بين نظام فاشل منذ خمسين سنة وفاسد من هرمه إلى قاعدته، وبين مخالب نظام عالمي يحاول تحقيق حلم ديغول في تقسيم البلد، وبين نخبة عاجزة عن تقديم حلول في مستوى التضحيات والإمكانيات التي يملكها بلد كالجزائر.
إن رغبة القوة العالمية في تحويل الصحراء إلى منطقة صراع دولية عبر تسمية “الساحل” التي أطلقتها فرنسا على جنوب الصحراء، وتهديد الوحدة الوطنية وعجز الرئيس الحالي بوتفليقة عن أداء مهامه وسياسة التقشف والمصادقة على مشروع المالية الذي “يعري” المواطن أساسًا، سيؤدي إلى نسف هذه الخماسية ويقلب المعادلة عكسيًا تجاه الدفع بالجزائري للخروج، وهو ما سنكتب عنه لاحقا تحت عنوان: “ما الذي سيدفع الجزائري الآن للخروج إلى الشارع؟”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست