إن أجيالًا من الشباب العربي في سوريا والعراق وغيرهما، تعرضوا لأزمات وجودية وهزات عنيفة صدمت الكثيرين، فبين قسوة الأحداث وانهيار المجتمعات وغياب الأمن وانتشار الفوضى والقتل، والاستبداد بأشكاله مع صور مشوهة من الممارسات المنتسبة للدين، سواء بالتطرف أو الفشل السياسي، وفي ظل غياب خطاب دعوي تربوي متزن، أصبح من المنطقي أن تملأ تلك الفجوة النفسية أية فلسفات أو أفكار تعالج المشكلات التي أفرزها الواقع المتأزم.
ومن بين تلك الفلسفات ظهرت الرواقية، ونحن ننطلق من قاعدة مباركة وهي: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. لكن علينا أن ننتبه لأمرين؛ أولاهما: ألا تتصادم تلك المعارف مع عقيدتنا. وثانيهما: ألا يكون لدينا ما يغني عن تلك الأفكار الوافدة.
والفلسفة الرواقية ليست فلسفة ثرية تمتلك تاريخًا كبيرًا كالمدارس الفلسفية الكبرى، ولا شك أن ارتباطها الوثيق بمواجهة المعاناة في الحياة، جعلها ملاذًا للبعض من وقت لآخر، ولو بصورة جزئية، خاصة بعد انتشار المسيحية، فمن محاولات للتوفيق والمقاربة تارة، ومن صراعات ورفض تارات أخرى، وبشكل عام فالرواقية مرت بمحطات برزت فيها؛ أهمها:
مرحلة الظهور الأول: على يد الفيلسوف زينون في القرن الثالث ق.م، لكنه كان ماديًا، فيما يبدو من النصوص المأثورة عنه مع قلتها.
مرحلة ما بين القرنين الأول والثاني الميلاديين: وهي الحقبة الأكثر حضورًا ووضوحًا، بعد ما تأثرت بالأفلاطونية، فأصبح أقل مادية – كما أشار لذلك برتنارد رسل في «تاريخ الفلسفة الغربية / الفلسفة القديمة» – وأشهر رواد تلك المرحلة هما: سينكا، وأنطونيوس أورليوس.
عصر النهضة : شهدت أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر جهودًا لتشكيل تركيبة منهجية للمسيحية والرواقية. وكان أهم شخصية في حركة الرواقية الجديدة هو جوستس ليبسيوس (1547-1606).
الرواقية المعاصرة: ظهرت كاتجاه في القرن العشرين يتزايد بشكل ملحوظ، خاصة من قبل أكاديميين مختصين في العلاج النفسي وتعديل السلوك، ويبدو أن هناك ارتباطًا بين الفلسفة الرواقية وبعض تقنيات العلاج الإدراكي السلوكي، وما شابهه من تطبيقات تعتمد على تغيير القناعات والأفكار.
هناك العديد من المدونات الشخصية الرواقية، بعضها يديره علماء رواقيون بارزون (على سبيل المثال، ماسيمو بيجليوتشي، وويليام إيرفين، وجون سيلارس) وبعض المعالجين الذين يستكشفون التطبيقات الرواقية (على سبيل المثال، دونالد روبرتسون).
ظهرت مقالات عن الرواقية على مواقع الويب والتواصل الاجتماعي وجروبات «فيسبوك» تضم أعدادًا كبيرة من الرواقيين. هناك مجموعة متنوعة من اللقاءات والمجموعات الرواقية مقرها في أماكن عدة كما في أستراليا، وأمريكا، وكندا، وأوروبا. بالإضافة إلى العديد من «المخيمات الرواقية» للدراسة والممارسة.
وفقًا لمجلة فوربس، فإن الفكر الرواقي الحديث «يحمل وعودًا رائعة لقادة الأعمال والحكومة الذين يعالجون المشاكل العالمية في فترة الركود المضطرب بعد الركود».
«استخدام الرواقية المتسللة للحياة» أو «الرواقية في وادي السيليكون» كوسيلة أساسية لفهم الفلسفة الرواقية.
بعد ذلك، ناقشوا في مدونة رواقية شهيرة، دور الرواقية في الدعوة للتغيير في المجتمع، بما في ذلك عندما يتعلق الأمر بالوقوف ضد التمييز على أساس الجنس في مكان العمل.
تم اقتراح أوجه التشابه بين المذهب الرواقي الحديث والموجة الثالثة من العلاج المعرفي السلوكي أيضًا، وقد تمت دراسة فعاليتها في علاج الاكتئاب. كان هناك أيضًا اهتمام بتطبيق مبادئ الرواقية القديمة على قصة أصل الإنسان، التربية البيئية، النباتية والتحديات الحديثة للتنمية المستدامة، واستهلاك المواد والنزعة الاستهلاكية.
في مقال في ABC News، روج نائب وزير الدفاع السابق وأحد مشاة البحرية الأمريكية المتقاعد، ميك مولروي، لفكرة استخدام الرواقية كفلسفة رسمية للجيش الأمريكي بسبب مبادئه الأربعة للحكمة والشجاعة والعدل والاعتدال. وقال أيضًا إن الفلسفة كانت مثالية لأولئك الذين يقومون بأدوار قتالية في الطريقة التي يتعامل بها الرواقيون مع الغضب والخوف ومفهومهم عن الأخوة العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، دعم المقدم توماس جاريت هذا المفهوم في مؤتمر Stoicon Modern Stoicism في أثينا، اليونان. وصف برنامج تدريب مرونة المحارب الذي طوره، بناءً على الرواقية، ودرّس للقوات الأمريكية خلال حرب العراق.
نانسي شيرمان، أستاذة الفلسفة المتميزة في جامعة جورجتاون والرئيسة السابقة المتميزة في الأخلاق في الأكاديمية البحرية الأمريكية، روجت أيضًا لهذا المفهوم في كتابها «المحاربون الرواقيون: الفلسفة القديمة وراء العقل العسكري». ربما يكون أفضل مثال على هذا المفهوم عمليًا يأتي من الأدميرال البحري المتقاعد جيمس ستوكديل، الذي في كتابه، خواطر طيار مقاتل فلسفي، ينسب البقاء على قيد الحياة لمدة سبع سنوات من كونه أسير حرب إلى مبادئ الرواقية.
وتمرّ الرواقية في حالة شبه إحياء لها بعد ألفي عام من تشكّلها.
من بين الكتب الحديثة والمفيدة: «كيف تفكر مثل إمبراطور روماني» لدونالد روبرتسون، و«العقبة هي السبيل» لريان هوليداي، و«التحدي الرواقي» لوليام إيرڤن، إذ يعتمد جميعها على مواد أصلية مثل خطابات الفيلسوف الروماني ابكتيتوس، وتأملات الإمبراطور والفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس.
يمكن القول إن الفلسفة الرواقية فيها ما يجعلها جذابة – أو على الأقل ما يفهمه الأكثرون منها – وهي:
1- عدم اتسامها بالتعقيد النظري الفلسفي المعروف عند الفلسفات الأخرى، وإنما تركز على الجانب التطبيقي والعملي، ولذلك فالرواقيون يتجاوزون الخوض في التعريفات والجدل فيها، فعندهم الفضيلة هي أن تكون فاضلًا وفقط.
2- التدرب على التقبل مع المصائب بتمهيد مهم وهو اعتقادهم بأنها شيء طبيعي في الحياة.
3- التركيز على العقلية لا الأحداث، فتحت أي ظرف من سجن، أو حرب، أو حتى القتل، يمكن للرواقي أن يحمي نفسه عن طريق عقليته، فيمكنه أن يسير إلى الموت شجاعًا متماسكًا، كما فعل سقراط مثلًا.
4- الحث على الصمت والهدوء وهذا يعالج الكثير من الضغوط العصرية.
5- التدريب على رباطة الجأش في الأزمات.
6- عدم وجود إلزامات وواجبات وتكليفات ولا قوانين.
7- تتعامل مع الطموح الزائد الذي قد يؤدي لصدمات نفسية عنيفة عن طريق ترك ذلك الطموح ببساطة.
8- تجنب الخوض في السياسة وتحمل مسؤولياتها إلا بشروط.
9- الاقتناع بأن كل شيء يحدث في الدنيا مقدر سلفًا ولا يوجد شيء اسمه مصادفة أو سوء حظ، وإنما كل شيء يتم وفق للقانون الطبيعي وهو كخطة معدة سلفًا، وفي قناعتهم أن كل إنسان ينال ما يجب أن يحصل له، وما يعبر عن دوره المحدد له، كمن يؤدي دورا في مسرحية، وعلى هذا التصور فلن يشعر أي شخص بأنه مظلوم أو عسر الحظ، بل سيعرف الأمير أن دوره أن يكون أميرًا، وكذلك العبد سيرضى بكونه عبدًا، ولن يشعر بهوان في ذلك.
قطعًا هذه الأفكار فيها ما يمكن قبوله كوسيلة لتهذيب الذات والتدريب على الصبر والفضائل والشجاعة، لكن المشكلة هي المنهج الاختزالي الذي لا يعالج كل الجوانب مع وجود ما يغني المسلم في مناهج التصوف والسلوك المعتدلة والمستمدة من السنة والسلف الكثير جدًا.
لكن فيها من العوار الشيء الكثير فلسفيًا ونفسيًا وأخلاقيًا.
وفضلًا عن ذلك فإن في جذور تلك الفلسفة – والذي لم يزل متداولًا حتى الآن – ما يخالف العقيدة الإسلامية ومن ذلك:
· وحدة الوجود.
· شعلة برومثيوس التي هي رمز للرواقية وهي فكرة وثنية تعود للاعتقاد بأن النار هي أصل المخلوقات والبعض يرمز لها بالرب!
· الإلحاد يجد مرتعًا رحبًا في أحضان تلك الفلسفة التي لا تهتم لا بالدين ولا بالعبادة ولا بالشعائر، ومفهوم الأخلاق في الفكر الرواقي غير مضبوط، بل هم يتجاهلون التفصيل فيها عن عمد بدعوى أن التنظير لن يفيد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست