عام 2003 مرت الذكرى الخامسة والسبعين لميلاد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة آنذاك في ظل نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك تحيا قهرًا ليس في سقفه الأعلى، وحده الأقصى، كالذي تحياه اليوم، وفي عام 1978 مرت الذكرى الخمسين لميلاد الجماعة في ظل حكم الرئيس الراحل أنور السادات، في ظل تضييق أقل سمح لها بالوجود على الساحة ولملمة كيانها بعد المحنة الأولى ذات الفصول الدامية في عهد سلفه، ورغم هذا لم تفكر الجماعة في الاحتفال بالذكرى الذهبية لتأسيسها، وفي عام 1953 كانت الجماعة تحيا في استقرار بعيد حركة الجيش في يوليو (تموز) 1952، وتوافق غير مسبوق مع رئيس البلاد آنذاك محمد نجيب، ورغم ذلك لم يخطر على بال أحد فيها الاحتفال بالذكرى الفضية لتأسيسها، بل مر الأمر دون مجرد ذكر يبقى على الزمن في الحالات الثلاثة.
وفي الأول من أبريل (نيسان) الماضي فاجأت قيادات جماعة الإخوان الأم في مصر بتنظيم احتفال بالذكرى التسعينية لتأسيسها في ظل أجواء غير مسبوقة على الإطلاق، فمرشد الجماعة ورئيس الجمهورية المنتمي إليها.. كلاهما في غياهب السجون، وأبرز قياداتها وكوادرها إما في الأسر أو في رحاب الله أو مصابين ومطاردين داخل البلاد وخارجها.
تخيلتُ الاحتفاء لا الاحتفال تخيلت الذكرى التسعينية لميلاد الجماعة على نحو مختلف، تخيلت أبحاثًا تلقى عن الجماعة، الأهدف والتأسيس، والتطور والتجديد، ومراجعة الخُطى الماضية للاستفادة المستقبلية، على أن يُدعى للاحتفائية المُخالف في الرأي والتوجه من مختلف أرجاء العالم ممن يقبلون المشاركة، بما في ذلك الموجودين في إسطنبول من قيادات علمانية على قلتها.
تخيلتُ وقدرتُ أن الأمر لن يخرج عن إطار أوراق تُلقى بموضوعية وفي ظل تدقيق شديد من منظمين بعضهم جامعي يحرص على رزانة الأوراق المقدمة، والبعض الآخر إعلامي يستطيع المساهمة في إبراز الأوراق بين دفتي كتاب رزين.
وتصورتُ الاحتفائية وقد شرعتْ الكلمات من جانبي الجماعة اليوم.. والكل يشارك ويُدلي بدلوه في أسلوب راق يراعي الأصول المشتركة، ويدعو إلى لم الشمل قدر الإمكان، كما أبهجني تخيل وجود قامات فكرية كبرى محسوبة على الجماعة أو تشرف الجماعة بها، وفي ظل تعدد أيام الاحتفائية.
سر وسعد خاطري بتخيل الجميع في حوار راقٍ يساهم في فهم سر الأحداث المتلاحقة التي قادت الجماعة إلى واقعها المرير، ووضع الأصابع بدقة على مكامن الجراح في سبيل تضميدها، وعودة الجماعة قريبًا أو وشيكًا إلى مصر لتمارس دورها الدعوي والتربوي الذي تفتقده الجماعة بقوة، وبالتالي الإفراج عن المعتقلين الذين يتضورون ويعاني الآلاف منهم في ظل أجواء غير إنسانية تحيط بهم، وإعدامات تُنفذ في سعار مجرم نحو زيادة الشرخ الاجتماعي والإنساني في مصر على نحو غير مسبوق تاريخيًا.
انتظرتُ احتفائية لإعمال العقل والتفكير، وجلسات مفتوحة لإثراء الجماعة بروح النقاش والتدبر، ودرس للعالم في كيفية تداول الأمور في أحلك اللحظات، وطار الأمل بي بشعاعه فتصورت أن الجلسات ستحمل الخير الحقيقي لمصر، تُدعى إليها جميع القيادات المختلفة من داخل الجماعة للتقريب بينها وبين بعضها، وجميع المفكرين المنتمين للجماعة وللجانب الآخر المُعارض لها، وتبدأ الفعاليات ولا تنتهي الاحتفائية إلا بأوراق وقرارات مُقاربة للواقع تحمل رؤية لإنهاء الأزمة الطاحنة في مصر التي تعصف بالأمة كلها.
ومع الاحترام للمشاركين في احتفالية الأحد الماضي بتسعينية الجماعة فإن أحد جانبي الجماعة استأثر بالفعالية في خلال ساعات حملت كلمات لرموز ذلك الجانب سواء من المقيمين في تركيا أو لندن، مع ضيوف لكن دون تطرق لمآسي الواقع المفرطة في الآلام، ولكن صب المجتمعون آناء جديدًا من الآمال فوق الواقع، كسكب الماء على الجراح العميقة يزيدها ألمًا ولا يأخذ بالطريق الصحيح نحو أسباب الشفاء.
رعت الحكومة التركية الاحتفالية رعاية جعلتها أقرب للمناسبات الرسمية وأبعدت الجانب الفكري والمراجعات عنها تمامًا، وأوغرت قلب جانب كبير من زوجات وأبناء المعتقلين والشهداء والمصابين والمطاردين على أعلى مستوى، وتعدى الأمر الكنانة للآلاف الذين يتضورون خارجها، ولا يرون في الاحتفالية ولو بارقة قليلة، أو ضوء يسير يضيء بعضًا من ظلام الواقع المرير الذي يحيونه.
ودار في أذهان الكثيرين أن القيادات القديمة للجماعة خارج السجون أرادت من الاحتفالية غير المعهودة في ظل الأجواء غير المسبوقة أن تكيل شحنة مركزة من إغاظة النظام المصري، على طريقة: (إننا هنا برغمكم)، وهو ما وضع الجميع بخاصة في الداخل أيديهم منه على قلوبهم، فالاحتفال بهذه الطريقة يزيد من الضيق والكوارث التي يعاني أفراد الجماعة في الداخل منها، ويُؤلب ويدفع النظام في مصر لكيل الضربات الموجعة لهم أكثر، مما يزيد في ضراوة الموقف المصري وإشعاله دون هدف أو غاية.
ولعل مما دار في الأذهان أيضًا أن الحكومة التركية التي رعت مشكورة الاحتفالية جاءت رعايتها خارجية على أدوات وقدرات الجماعة، فماذا تملكه الجماعة إذًا لتحتفل؟
ويبقى أن يوم الاحتفاء بذكرى ميلاد الجماعة إنما يجب أن يجئ يوم عودة الجماعة إلى الكنانة لتعالج أوجاعها، وتضمد جراح أهلها من المصريين، وتؤسس لنفسها من جديد، يوم الاحتفاء بالجماعة يوم تعرف الجماعة مقدراتها وطريق لملمة الجراح والحفاظ على كوادرها وأرواحها للغاية الأسمى الذي خلق الله من أجله الإنسان عمارة الأرض، ومن ثم الحفاظ على الدماء العزيزة المؤمنة التي جعل الله هدم الكعبة أهون من جريانها دون ذنب أو جريرة.
يوم الاحتفاء يوم تستمر الجماعة وحدة واحدة مُصممة على المضي قدمًا نحو الحفاظ على الأوطان ومعاونة كل الذين يستطيعون أن يعينوهم في سبيل حياة أدمية داخل وخارج مصر، وبقدرات الجماعة نفسها .. وقبل أن يتحقق ذلك لا يحق لإحدى جبهتي الجماعة أن تدعي الاحتفال في ظل انقسام داخلي لم يحدث له مثيل من قبل، وتحديات خارجية تتزايد صعوبتها وتتضخم وتهرول وتجري خلف الجماعة ككرة الثلج.. فيما بعض قياداتها مشغولين بالتغني بقرب نصر لا دليل أو حتى علامة لإمكانية تحققه على أرض الواقع!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
سياسة