عندما يصبح قانون الطوارئ “قانون الغاب” يعلو ولا يُعلى عليه في دول ظلّت لعقود من الزمن تتفاخر بنموذجها الدّيمقراطي وتدعو الدّول للنسج على منواله، فاعلم أنّك في زمان انقلبت فيه الأمم على ثوابتها تحت دعاوى متعدّدة.

طيلة العقود الماضية لم يدّخر المسؤولون الفرنسيون المتعاقبون على السّلطة جهدًا من أجل ترويج نموذجهم في الحكم القائم أساسًا على الحريات والتعددية وغيرها من الثوابت التي دعت إليها الدّيمقراطيّة.

فبعد ساعات قليلة من هجمات باريس، توجه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بخطاب إلى عموم الشعب الفرنسي قال فيه إنّ فرنسا اليوم تعيش حالة حرب حقيقيّة استوجبت إعلان حالة الطوارئ لملاحقة الإرهابيّين ووضع المشتبه فيهم تحت الإقامة الجبرية وغيرها من القرارات العاجلة، ثمّ وبعد سويعات من القرار تناقلت وسائل الإعلام الفرنسيّة أخبارًا مفادها قيام الشرطة الفرنسية باقتحام مئات المنازل في أنحاء متفرقة من البلاد لتفتيشها بدعوى أنّ ساكنيها مشتبه فيهم بتبنّيهم للفكر السّلفي واعتقلت منهم العشرات ووضعت آخرين تحت الإقامة الجبريّة بسرعة قياسيّة دون تقديم ملفّاتهم للقضاء لكي يفصل فيها.

وبعد 6 أيام من الهجمات الإرهابيّة المتزامنة الّتي ضربت العاصمة باريس وبناءً على طلب الرئيس هولاند بتمديد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر عوضًا عن 12 يومًا وتعديل بعض فصول قانون الطوارئ، اجتمع البرلمان الفرنسي من أجل النظر في القانون بنسخته المعدّلة ثمّ تمّت الموافقة على تمديد العمل بقانون الطوارئ المعدّل لثلاثة أشهر أخرى بغالبية ساحقة (551 مع، مقابل 6 ضد).

ينصّ قانون الطّوارئ المعدّل أنّ للسلطات الأمنية الحقّ في  توسيع نطاق الإقامة الجبرية ليشمل ‏كل شخص “تتوفر أسباب كافية للشك فيه” بأن سلوكه يشكل تهديدًا للأمن والنظام ‏العام كما أضاف النواب بندًا ينص على وضع سوار إلكتروني لتحديد الموقع ‏للأشخاص الذين تتم إدانتهم بأعمال إرهابية أو أنهوا عقوبتهم منذ أقل من ‏ثمانية أشهر كما يقيد القانون الاتصالات المباشرة أو غير المباشرة لبعض الاشخاص ‏الواقعين تحت الإقامة الجبرية بأشخاص آخرين يشتبه أيضًا بأنهم يعدون ‏لأعمال تهدد النظام العام.

حصر العقوبة بالشّبهة هذا العنوان الأمثل لقانون الطوارئ الفرنسي الجديد الّذي جاء ناسفًا لكلّ القيم الإنسانيّة الّتي ما فتئت تنادي بها فرنسا وصديقاتها من الدول الديمقراطية في كلّ مناسبة دوليّة لكن ومع كلّ حادثة إرهابيّة تهزّ الدّول “الديمقراطيّة” يتمّ نسيان تلك الدّعوات ويقذف بالدّيمقراطيّة في سلّة المهملات بداخل الأمم المتّحدة.

لقد طبّقت فرنسا ديكتاتوريّة القانون في أبهى حللها في الأيّام الأخيرة وقامت الشّرطة الفرنسيّة بعدد كبير من التّجاوزات في حقّ عدد من المشتبه بهم وفي حقّ عدد من المعارضين لسياسة الحكومة، فقد بثّت إحدى القنوات الفرنسيّة تقريرًا يظهر قيام الشّرطة الفرنسيّة بمداهمة مطعم حلال وتمّ تفتيشه وتكسير بعض محتوياته وترويع المتواجدين داخله الذين لم يسمح لهم بالتّحرّك ولا الأكل تحت ضغط الأسلحة المصوّبة نحوهم إلاّ عندما غادرت القوّات المقتحمة المكان دون أن تعثر على أيّ شيء.

لم ينته الأمر عند هذا الحدّ من التّجاوزات باسم القانون في فرنسا، ففي تطوّر جديد لتطبيق الدّكتاتورية القانونيّة قال وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف يوم السبت إن بلاده وضعت نشطاء في مجال البيئة قيد الإقامة الجبرية قبل انطلاق قمة عالمية للمناخ في باريس بعد يومين وعلّل الوزير الفرنسي هذا قرار بأنّ السلطات استخدمت في ذلك قوانين الطوارئ التي طبقت بعد هجمات باريس.

وقال كازنوف إن السلطات اشتبهت في أن النشطاء خططوا لاحتجاجات عنيفة قبل المحادثات التي تبدأ يوم الأحد قبل انطلاق القمة في اليوم التالي وحتى 11 ديسمبر كانون الأول المقبل وأضاف كازنوف في خطابه الّذي ألقاه بمدينة ستراسبورج: “هؤلاء الأشخاص وعددهم 24 وضعوا قيد الإقامة الجبرية لأن سلوكهم شابه العنف أثناء مظاهرات في وقت سابق ولأنهم سبق وقالوا إنهم لن يحترموا حالة الطوارئ رغم أنّهم لا صلة لهم على الإطلاق بالإرهاب، لكن قواتنا تحتاج للتركيز بشكل كامل على حماية الشعب الفرنسي، في حين أنّ أي اضطرابات عامة خطيرة من شأنها تشتيت الشرطة عن معركتها ضد الإرهاب”.

لقد داست فرنسا الدّيمقراطية بذريعة مقاومة الإرهاب وأصبحت دولة ديكتاتوريّة في ظلّ تطبيقها لقانون الغاب “قانون الطوارئ” والذّي منعت بموجبه نشطاء في المجتمع المدني بأن يقوموا بإيصال أصواتهم للعالم بطريقة سلميّة حتّى أنّ جان فرانسوا جوليارد مدير فرع منظمة السلام الأخضر (جرينبيس) بفرنسا تعجّب من قرار الحكومة قائلًا “إن نشطاء البيئة الموضوعون قيد الإقامة الجبرية نشطاء مسالمون لم يسبق لهم أبدًا ارتكاب أي أعمال عنيفة أو اتهامهم بأي شيء”.

نويل مامير أحد النواب الذين صوتوا برفض إجراءات الطّوارئ الجديدة قال في تصريح سابق إنّ “الحكومة تقدم ضمانات الأمن إلى مجتمع مصدوم يطلب المزيد والمزيد من الأمن ولو كان الثمن التضحية بحرياته وفي غضون بضعة أشهر سيفيق هؤلاء الناس على الآثار ويدركون أنه باسم مكافحة الإرهاب أصبحت البلاد في حالة انعزال وانتهكت حرياتنا الفردية والجماعية”.

عبد المجيد المراري أستاذ القانون ‏الدستوري ومدير منظمة “إفدي” الدولية لحقوق الإنسان كان قد وصف قانون ‏الطوارئ بأنّه “حالة اللاقانون” معتبرا أنه بموجب قانون الطوارئ يكفي ‏مجرد الشك بشخص للتخويل للسلطات باعتقاله كما قال جون دالوسين مدير العفو الدولية لشؤون أوروبا وآسيا الوسطى “من المفارقة تعطيل حقوق الإنسان من أجل حمايتها”.

من المؤكّد أنّ الرّئيس الفرنسي فرانسوا هولاند نسي ما قاله أثناء المناقشة الافتتاحية للدورة السابعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، 25 سبتمبر/أيلول 2012: “تسعى فرنسا إلى أن تكون مثالية ليس لإملاء سلوكها بل لأن حقوق الإنسان تمثل تاريخها ورسالتها. و تسعى فرنسا إلى أن تكون مثالية في الدفاع عن الحريات الأساسية، فهذه هي معركتها وشرفها” وبدأ في دهس القيم الّتي بُنيت عليها الجمهوريّة الفرنسيّة منذ عقود بدعوى الأمن وحماية حقوق الإنسان.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد