حينما قام سلمان خان، بإطلاق أكاديمية خان ليصبح صاحب اللبنة الأولى في التعلم عبر الإنترنت، لم أكن أدري أن هناك من المصريين من قام باتباع هذا النهج مسبقًا ربما حتى قبل أن يحصل خان على شهادته الجامعية.

خلال اليومين الماضيين اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعي، قصة عم سيّد، سائق التاكسي الذي أبهر جميع القرّاء حرفيًا بكل ما تحمله تلك الكلمة من معانٍ. كيف يمكن لكهلٍ يعمل كسائق تاكسي متواضع، تجاوز السبعين من عمره أن يمتلك هذا الكم من المعلومات في شتى المجالات سواء أكانت الأدب، التاريخ، الفيزياء، الأحياء، الطب، العلوم بأنواعها، اللغات وحتى الطب النفسي.

 

قد يبدو الأمر منطقيًا حينما يكون البطل شخصًا أجنبيًا من دولة ترعى وتتبنى وسائل التعلم المختلفة، أما حينما يكون البطل مصريًا خالصًا بهذا الكمّ من العلم حينها لا بد لنا أن نتعجب، فهذا أمرٌ لا نسمع عنه كل يوم.

بداية القصة

تحكي رنيم صلاح طالبة في طب الأسنان، على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي عن قصتها مع هذا السائق؛ حيث بدأ الأمر يوم زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مصر، ونظرًا لدواعي تلك الزيارة تم إغلاق مترو الأنفاق مما استدعاها إلى استخدام تاكسي قديم ذي حالة متواضعة، وبالطبع لم يكن الانطباع الأول جيدًا لا للعربة ولا لسائقها.

بدأ السائق العجوز الذي يدعى “سيد” كلامه بـgood evening متبعًا إياها بمجموعة من الكلمات الغريبة التي قام بتوضيح معانيها. مساء الخير بالإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، واليونانية! حسنًا الأمر إلى حد ما مدهش وعكس المتوقع. بدأ “عم سيد” في التوجه إلى ميدان “روكسي” كما طـُـلب منه. أثناء الطريق قام بسؤال رنيم عما إذا كانت تعرف سرّ تسمية ميدان روكسي بهذا الاسم؟ أجابت بالنفي ليبدأ بعدها سيلٌ من المعلومات الوفيرة عن هذا الميدان، سر تسميته، تاريخه، وسبب إنشائه، ثم انتقل الحديث بعدها عن الدولة العباسية، تاريخها، سقوطها، ثم الدولة الأموية، ثم العثمانية…

كل هذا بالحقائق والتواريخ والأرقام التي قد يصعب حفظها على دارسي التاريخ أنفسهم، فضلًا عن كونها صادرةً من سائق. لا تندهش فالقصة لم تنته بعد)

انتقل الحديث بعدها عن اللغة والسر وراء كلمة “OK” التي يستخدمها الجميع، والسر وراء اختصارها من كلمة “OKEY”. بإمكانك تخيّل الدهشة التي أصابت “رنيم” وراء هذا الكمّ من المعلومات الصادرة من رجلٍ تجاوز السبعين من عمره بكل دقة. الأمر لم ينته عند هذا الحدّ بل إن الحوار انتقل من التحدث عن التاريخ واللغة، إلى التحدث عن العلم. قام بالتحدث عن الميكروبيولوجي، الأحماض النووية للفيروسات والبكتيريا، الليزر، المفاعلات النووية، توليد الكهرباء، توليد الطاقة، الطب، الهندسة، السيكولوجي، والمصطلحات والنظريات النفسية! لقد تحدث الرجل عن جميع المعارف سواء أكانت معارف عامة، أم متخصصة.

الأمر لم ينته عند هذا الحد، بل انتقل إلى التحدث عن فيلم Interstellar ! قام بالتحدث عن هذا الفيلم، والنظريات الفيزيائية المرتبطة به، بل قام بشرحها أيضًا! الجاذبية، الجاذبية الصناعية، الثقوب الدودية، والثقوب السوداء.
نهاية الرحلة وسرّ المعرفة

حينما وصلت السيارة إلى وجهتها، قامت رنيم بسؤاله عن تعليمه، وكانت المفاجأة حينما أجاب بأنه حاصل على شهادة الثانوية العامّة. لقد واجهته الحياة وفرضت عليه عدم الحصول على شهادة جامعية واضطـُر في نهاية المطاف إلى العمل كسائق تاكسي. التغيّر الذي أضاف تلك الدرجة من الدهشة في حياته، هي أنه كان محبًا للتاريخ، فقام على هذا الأساس بالاشتراك في مسابقةٍ كويتية وحصل فيها على المركز الثاني.

من خلال الأموال التي فاز بها في تلك المسابقة قام عم سيّد بشراء جهاز كومبيوتر، ومجموعة من القواميس والمراجع. لقد أخذ على نفسه من وقتها عهدًا ألا يدع أي شيءٍ يمر في طريقه دون أن يعرف ما سببه وما قصته. بحكم وظيفته، تحاور عم سيد مع المهندس، الطبيب، المزارع، العامل، الشيخ، والمعلم. كان يسجل كل معلومة يعرفها. تعلم الإنجليزية من خلال ترجمة خطابات أوباما، ثم ترجمة مجموعة من الأخبار، الأبحاث، والنظريات. الأمر ذاته في الإيطالية، الفرنسية، والألمانية.
بالإضافة إلى جزء من اليونانية. سمع تعليقات الركاب عن فيلم Interstellar فقام بجمع المعلومات عنه، ترجم النظريات العلمية المرتبطة به، استعد جيدًا للفيلم قبل مشاهدته، ثم شاهده وهو مدركٌ لكل جزء تمت مناقشته في هذا العرض. لم يتعلم عم سيد في أي جامعة معتمدة، بل تعلم فيما هو أفضل، لقد تعلم في جامعة الحياة.

لقد ختم عمّ سيد كلماته بأنه لو كان مسئولًا عن تعيين موظفين في شركة علمية، أو طبية لكان سؤاله الأول للمتقدمين عن الأدب والتاريخ. ولو كان الأمر عكسيًا في شركة أدبية أو إدارية، لكان سؤاله الأول عن العلم. لقد قال كلمة من نور “هذا هو الفارق بين شخص والآخر، العلم فقط، ليست الشهادة، أو الأموال، فقط العلم”.
هل لدينا مبرر؟

عم سيّد يمثل نجاحًا مصريًا خالصًا لمبدأ هام من مبادئ التعلم في العصر الحالي. يمكنك أن تتعلم ما تريد وقتما تريد كيفما تريد. لم يعد الأمر قاصرًا على ما تتلقاه داخل جامعتك. يمكنك الحصول على المعرفة فقط من خلال الكمبيوتر ووسيلة للدخول إلى عالم الإنترنت.

عم سيد يبلغ من العمر 73 عامًا، لم تمنعه وظيفته، حياته، أو عدم حصوله على شهادة جامعية، من التعلم. بل قضى حياته شغوفًا بالعلم والتعلم. لقد آمن منذ اللحظة الأولى في اتخاذ قرار المعرفة، أن المعرفة هي الشغف والغاية في حد ذاتها، وليست وسيلة. لا يهم الحصول على شهادة بل ما يهم الحصول عليه هو المعرفة.

ربما لم يعد لدينا الآن أي مبرر للتعلم، ليست الشهادة، ليست الأموال، ليست الظروف، لا يوجد أي مبرر قد يثني شخصًا ما عن التعلم والمعرفة. كل ما علينا فعله فقط هو أن ننظر مليًّا إلى عم سيّد، لعله يكون قدوةً لنا. ففي عصر المعرفة، يصبح الجهل اختيارًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد