حين كَبرنا على نصائحهم، صرنا نخاف من الاقترب أكثر، لم نَعد قادرين على التّصالح مع أنفسهم، كان حديثهم يعجب بالتّرهيب، أخافونا من الموت، ومن لقاء الله، حدثونا عن عذاب القبر وأمعنوا في الحديث، فخاف النّاس من الاقتراب كما خافوا من الابتعاد، حتى هربوا من أنفسهم، لم يعودوا قادرين على فهم دينهم.
كانت نصائحهم غامضة عقيمة، أحيانًا تحمل التّشدد الكبير، الذي يُخيف، ولم نكن بعد قادرين على الانتقاد، كنا صِغارًا للحد الذي لا يُعطينا المساحة الكافية للانتقاد، ولكن منذ وقت ليس ببعيد بدأت أقرأ عن قصص الصحابة ومواقفهم، عن أحاديثهم عن لقاء الله، ومذ سقوط بعض مشايخ السلاطين في مصر، بدأت أتساءل لماذا دائمًا يُسوقون لأفكار التّشدد التي تجعل العقل يحجم عن التّفكير؟! لماذا يعمد علماء السلاطين لتخويف النّاس؟! لماذا يميلون لإشغالهم عن المطالبة بحقوقهم؟ لماذا يربطونهم أكثر بالمساجد والبيوت، وكأنّها سجون لا بيوت عبادة؟!
وَمذ فترة قصيرة جدًّا، بدأت أعي، خاصة ومع تساقط علماء السلاطين في بلاد الحرمين، بدأت أعي جدًا، لماذا كل هذا التّشدد؟ لماذا كانوا يخوفون النّاس من الموت؟ لماذا يريدون حصر الرّجال في المساجد والنّساء في البيوت؟
وكان الجواب، حتى يظلوا مشغولين عن جرائم السلاطين والمسؤولين، عن الظّلمات التي يقع تحتها كل من يفتح عينيه أو يبحث، أو يسأل، أو ينتقد، ليولد النّاس جبناء، ويموتوا كذلك جبناء، فالخوف يدفعهم للرضوخ لأمر الحاكم، وإنْ كان ضد أمر الله، ولا يمكن لمن يخاف الموت أن يُقدم عليه، فلا يقدم على الموت إلا شجاع لا يهاب، يعرف أن في الموت لقاء الله.
المتشددون أدخلونا نفقًا شديد الظلام، لا يمكن الخروج منه إلا بعد تحطيمه، هذا النّفق بنته فتواهم ودروسهم المتشددة، التي أنتجت جيلاً هاربًا من الدّين، منقلبًا عليه، رافضًا له، وما جاء به سيدنا محمد إلا باللطف واللين، فخاطبه ربه «لو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك».
أمّا مشايخ السلاطين، أتونا بكل نقيض حتى انفض الكثيرون، قدّسوا الأشياء وهمشوا الإنسان، قدّسوا مبنى المسجد وغفلوا عن الإنسان، انشغلوا بفتاوى دخول الخلاء والحيض والنفاس، وأغمضوا عن فتاوى الجهاد والظلم.
وهاهم يُعلنون البراء من كل ما قالوه ليوافقوا ما يقوله الحاكم، فأيدوا دين الحاكم على دين الله، وانتصروا لدين الحاكم وتركوا دين الله، خوفًا من أنْ يقفوا مع الحق فيُزجّ بهم في السّجون، كما فُعل برفقائهم الذين قالوا كلمة الحق ولم يهادنوا، ولم يقبلوا بإغلاق عيونهم.
رُبما لم يكن للربيع العربي حسنات أكثر من أنّه عرّى هؤلاء الذين كانوا يختبئون تحت عباءة الدين، وخلف اللحى المزيفة التي يحملونها في وجوههم، إذ كَشف عن زيفهم وزيف ما كانوا ينادون به، وسكتوا عن سفك دماء الأبرياء، وكفوا ألسنتهم عن الوقوف جانب الضّعيف كأنّ لا ألسنة لهم.
وفي كل مرة أقرأ عن هؤلاء، أو أسمع عن أحدهم ممن تأخر سقوطه، أتذكر العزّ بن عبد السلام، العالم الورع الذي عاش عصرًا من أشد العصور في التاريخ الإسلامي اضطرابًا وقلقًا، ومع ذلك لم يفت بما يخالف الشّرع، بل استنكر على السلطان تعاونه مع الصليبين، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رَشَدًا، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك»، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على الأعداء.[1].
ولا أدري أبقي أحد لم يسقط أم ماذا؟ ولكننا ندعو الله بالثبات، وأنْ يلهمنا اتباع الحق أينما كان وحيث كان، ورد الباطل أينما كان وحيث كان، وممن كان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست