فى عام 358هـ كان الوضع السياسي فى مصر قد تغير؛ حيث تحولت من ولاية تابعة للعباسيين إلى ولاية ترفرف عليها الراية الخضراء: شعار الفاطميين، تدين بالولاء للخليفة الجالس في المغرب، وتولى جوهر القائد أمور مصر، فرتبها وبنى بها مدينة القاهرة ـ مدينة ملكية ـ استعدادًا لمجيء الإمام الإسماعيلي، وأول الخلفاء الفاطميين فى مصر: “المعز لدين الله”، الذي قدم من المغرب إلى قلب العالم العربي؛ تمهيدًا لإكمال سيطرته على بقية دول الإسلام، و ليكون هو خليفة العصر والأوان.

 

ومن الواضح أنه لم يعول على العودة إلى المغرب؛ فقد جاء حاملًا معه كل أمواله وذخائر دولته، حتى توابيت آبائه، جاء بها، وكأنه يولي وجهه شطر الشرق، وقد أحكم المعز سيطرته على الشام، والحجاز، ولكن ظل حلمه بإسقاط أعدائه العباسيين بعيدًا، ومضى عصر المعز!

 

وجاء ولده العزيز الذي يتسم عصره بالاستقرار والرخاء، تلاه عاصفة الحاكم بأمر الله الذى أثار جدلاً ربما بقى إلى الآن، وتلاه عصر ضعف فيه الفاطميون أيضا، دون أن يتحقق حلمهم بإسقاط دولة العباسيين منهكة القوى؛ فلم يعد لديهم القدرة على تجييش الجيوش، وإحكام الخطط للقضاء على أعدائهم، لكن فجأة وعلى غير انتظار حققوا هذا الحلم أو لنقل تحقق لهم ذلك الحلم دون رمية سهم أو ضربة سيف.

 

كان ملك بني بويه ـ المسيطرين على بغداد والمسيرين لخليفتها ـ قد تهاوى وسقطت أركان دولتهم، وقد بزغ نجم السلاجقة يلوح فى سماء المشرق الإسلامي، متطلعين لوراثة بني بويه، وينظر قائدهم إلى بغداد؛ فهي الدرة التي تزين تاج أي سلطان، وتجعله نائبًا للخليفة، بل تجعله خليفة غير متوج يخضع له الجميع.

 

وكانت بغداد قد آل أمرها إلى القائد “البساسيرى” يحكمها، وقد ساء الموقف بينه وبين الخليفة العباسي: “القائم بأمر الله”، مما دفع الخليفة إلى مكاتبة سلطان السلاجقة “طغرلبك”؛ يستنهضه للمسير إلى العراق، ولم يتأخر “طغرل” فنهض إلى بغداد، التى لم يستطع حاكمها أن يحميها، بل فر من أمام السلاجقة، لكنه راسل الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله”، ودبر مؤامرة عاونه فيها “ينال” أخو السلطان “طغرلبك” غير الشقيق: حيث استغل محاصرة أخيه لبعض البلدان، وأعلن العصيان وهاجمه مما اضطر “طغرل” للفرار، ودخل “البساسيرى” بغداد بصفته نائبا عن الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله”. أصبحت بغداد تخضع لنفوذ القاهرة ويُخطب فيها باسم الخليفة الفاطمى، وترفرف عليها الرايات الخضراء، وألزم الوالي الفاطمي الخليفة العباسي المخلوع بكتابة كتاب يشهد فيه أنه لا حق للعباسيين فى الخلافة مع وجود بني “فاطمة الزهراء”، وقد ظل هذا الكتاب فى خزائن الفاطميين، حتى سقطت دولتهم، وأعطاه “صلاح الدين الأيوبى ” للعباسيين.

 

لكن كان الوضع في مصر فى تلك الأثناء سيئًا للغاية؛ فبين حروب أهلية، وبين أزمات اقتصادية، وفتن، والخليفة الصغير لا يملك من أمر بلاده شيء، والتطاحن بين القادة على أشده، فلم يلتفت أحد إلى الإنجاز الذي تحقق، والذي طالما حلم به آباء “المستنصر”، فلم يرسل الخليفة إلى “البساسيري” ما وعده به من المال والرجال؛ ليقوى نفوذه، لكن ظلت الخطبة تقام باسم الفاطميين فى بغداد مدة عام كامل (450هـ:451هـ) كان هذا العام كفيلاً بأن يجمع “طغرلبك” قواه ويعاود الهجوم على بغداد، ويقضى على “البساسيري”، ويقطع خطبة الفاطميين، ويعيد الخليفة “القائم بأمر الله”، وهكذا ضاع حلم الفاطميين الذى راودهم كثيرًا.

 

بل إن السلاجقة ـ فيما بعد ـ تمكنوا من مد نفوذهم على ممتلكات الفاطميين في الشام، واستولوا على دمشق، وتقلص نفوذ الفاطميين جدًا، والواقع أن نجاح الفاطميين فى بغداد ليس دليلًا على أية قوة حقيقية للفاطميين بقدر دلالته على الدسائس والمكائد فى بغداد.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

د.أيمن فؤاد سيد :الدولة الفاطمية فى مصر تفسير جديد
أبو المحاسن يوسف بن تغرى بردى: النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
المقريزى تقى الدين : اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا
السيوطى جلال الدين : تاريخ الخلفاء
عرض التعليقات
تحميل المزيد