«اصبـروا، لم تبق إلا سنوات قليلة ونعبر عنق الزجاجة»، كل أصحاب العقول السطحية، صفقوا بحرارة، وكذلك حصل مع الأغبياء أيضًا، لأن هؤلاء لم يكونوا استوعبوا شيئًا مما قيل، ومع ذلك فإنهم صفقوا كعادتهم، لتلك الكيفية التي تجلت فيها جرعات الأبوة الحانية، أما الأقلية فقد التزمت الصمت؛ رغبةً في مخالفة السائد.

وهو ما يعني أن له الحق في قول أي شيء رغب فيه، دون أي اعتبار للعواقب.

ومن زاوية «الحق المطلق» تعد ثقافة النقص المعرفي ميدانًا واسعًا لممارسة الضبط الاجتماعي والسياسي، وقد عرفته مختلف الثقافات القديمة وسعت إلى تأسيسه تحت ألوان ومسميات فنية رمزية مختلفة منها الأساطير الشعبية، التي تتخذ من المبهم والمجهول الذي يراقب ومستعد للفتك والإيذاء مادتها الأساسية، ومنها يستمد الراوي والمشعوذ والكاهن قوته وهيبته، مع الأخذ في الاعتبار أن رموز الخوف تختلف من ثقافة إلى أخرى.

وتشمل سياسة النقص المعرفي ثلاث أفكار رئيسية تتمثل في:

  • الفكرة الأولى: هي جعل الدولة = نظامها الحاكم، أي استخدام سياسة الرئيس الدولة.
  • الفكرة الثانية: هي المعنى البعيد النظري، التعبير الغامض عن الوطن، شيء مثالي يجب أن يضحي كل الشعب من أجله.
  • الفكرة الثالثة: نظرية المؤامرة، تعتمد نظريات المؤامرة دائمًا على تبسيط الأحداث وتسطيحها وفق قالب نمطي واحد يصلح لتفسير كل شيء تقريبًا، لتفادي جهد استقصاء الواقع المعقد وقلة توافر المعطيات الموضوعية.

وفي الحقيقة تعكس نظريات المؤامرة داخل الفرد أكثر من خارجه، إنها تعبر عن هواجس الجموع ومخاوفهم وتجسد ما يرغبون في أن يكون، لا ما هو موجود فعلًا.

عقدة النقص المعرفي وتأثيرها النفسي على الجمهور المستهدف:

عقدة النقص المعرفي تجعل الخوف يتحكم بالإنسان المقهور، الخوف من السلطة، الخوف من فقدان القدرة على المجابهة، الخوف من أن تفهم خطأ، والخوف من أن لا تفسر كلمة أو عبارة بغير المعنى الذي أردت استخدامه والتوصل إليه، الخوف من شرور الآخرين، مما يلقي به فيما يمكن تسميته بانعدام الكفاءة المعرفية، فهو يتجنب الوضعيات غير المألوفة، إذا خرج من دائرته الضيقة المحدودة، يشعر بانحسار الذات ويتجمد في الزاوية التي هو فيها مصاب بنوع من الشلل الوجودي، وتعمل الفئة المتسلطة إلى تغذية عقدة النقص والعجز لدى الجماهير، حتى تظل على تبعيتها، وحتى لا تتخذ المبادرة في تحديد مصيرها، ويقوم عادة كي يصل إلى هذه النتيجة، باستعراض قوته وأدواته التي يحيطها بنوع من الجبروت والتهديد المطلق، وليس هناك أمام الجماهير إلا القبول بالأمر الواقع.

فيلم Network 1976

سياسة التحكم بالعقول

فيلم نتورك إنتاج عام 1976، إلا أنه قد يكون الأفضل في إظهاره لتحكم الإعلام بالعقول، الفيلم يحكي عن قناة تلفزيونية قلت نسب المشاهدة بها وحصول برامجها على جوائز فكان قرارها بتغيير كل ما تقدمه وبث أفكار مختلفة ولو كانت قذرة.

ومن خلاله تشاهد كيف أن «المؤامرة» بالفعل تسيطر على أغلب وسائل الإعلام، لكنها ليست المؤامرة المبسطة التي تصل للناس بكون شخص واحد شرير متحكم، إنها المؤامرة التي يشترك فيها عقلية ونفسية المشاهدين، المؤامرة المركبة التي لا يمكنك فيها تحديد مصدر الشر.

قال سقراط؛ وكان من أوائل من درسوا الديماجوجية دراسة جادة ـ وهي إستراتيجية لإقناع الآخرين بالباطل والحصول على السلطة من خلال مناشدة التحيزات الشعبية اعتمادًا على مخاوف وتوقعات الجمهور المسبقة «لذلك ـأينما يخدع الناس فيصيغون آراءهم بمنأى عن الحقيقةـ يتضح أن الخطأ قد تسلل إلى عقولهم عبر صور معينة تشبه تلك الحقيقة».

كيف تتم آلية تصنيع الخوف؟

ناعومي وولف كاتبة أمريكية ومؤلفة كتاب نهاية أمريكا تقول عن سياسة تصنيع الخوف: «لا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من (حرياتهم الشخصية)، بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية».

وقد تكون الجهالة من سوء حظ الجماهير، حيث تسيطر عليهم «المخاوف» حتى تفقدهم الاتزان، وتجعلهم كقطيع يفقد كل فرده فيه إدراكه واتزانه ويتحرك مع الآخرين مدفوعًا بحركتهم، وعندئذ يسيرهم القائد المفوه فيسيرون وراءه ويرددون صيحته.

ويعد هذا النوع من سياسة الانتقاص المعرفي، عملت على تصنيعه في المجتمعات المعاصرة بطريقة مقصودة ومتأنية، مؤسسات كثيرة أهمها المؤسسة الإعلامية، كنوع من سياسة المتاجرة بالخوف والذعر.

سيكولوجية الاستحواذ على الآخر

تعمل منظمات الإعلام على جعلنا نعتقد أنها تنقل إلينا الأخبار بطريقة محايدة، إنها تعرض نفسها كما لو أنها نوافذ حقيقية على العالم، للأسف كل هذا ليس كما يبدو في الظاهر، فالاستحواذ السلبي كله يكمن في التفاصيل، عندئذ ندرك أن الإعلام ليس نافذة على العالم، بل هو رسم صورة للعالم.

ومع وجود صراع المصالح الهائل يحدث بشكل متعمد أنواع من التضليل الإعلامي، ولا يقتصر التضليل الإعلامي على المؤسسات الحكومية الرسمية في الدول الديكتاتورية القمعية، بل لرأس المال الخاص دكتاتورية أيضًا، وفي ذلك يقول الأمريكي (هربرت شيللر) مؤلف كتاب «التلاعب بالعقول»: «إن امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها متاحٌ لمن يملكون رأس المال. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تُصبح محطات الإذاعة، وشبكات التلفزيون، والصحف، والمجلات، وصناعة السينما، ودور النشر مملوكةً جميعًا لمجموعة التكتلات الإعلامية. وهكذا يصبح الجهاز الإعلامي جاهزًا تمامًا للاضطلاع بدور فعال وحاسم في العملية التضليلية».

ومن مظاهر التضليل الإعلامي (كتاب المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام)

  • التضليل بالانتقائية المتحيزة التي تنتقي بعض الكلمات والمصادر والاقتباسات وتتجاهل الأخرى.
  • التضليل بالتلاعب بالمعلومات وترتيب الحقائق بحيث تعطي معاني وانطباعاتٍ معينة مخالفة للواقع.
  • التضليل بإهمال خلفية الأحداث؛ مما يجعلها ناقصة مشوهة لا يستطيع المتلقي تفسيرها.
  • التضليل باختيار قضايا ومشكلات زائفة والابتعاد عن قضايا أخرى تهم الجمهور وتساهم في تشكيل الوعي السليم.
  • التضليل باختيار أضعف وأسوأ شخصية ممكنة لتمثيل قضية ما في حديث إعلامي لكي يتم إسقاط القضية وتشويهها عبر تلك الشخصية المهزوزة السيئة أو الضعيفة، والمنطقي أن صواب الفكرة لا يحدده مصدرها الذي منه أتت بل الذي إليه تستند.
  • التضليل بالمصطلحات المصنوعة والمنحوتة التي تبني وترسخ مفهوم معين يتوافق مع مصالح صانع المحتوى لتغييب الحقائق وتزييف الوعي.

لهذا يعد تفنيد المغالطات الإعلامية المتعمدة ضربًا من البخل المعرفي أو الذهني; فالبحث والتقصي لمعرفة التبرير المنطقي لاعتقاد ما، قد يكون مرهقًا ويتطلب وقتًا وجهدًا سخيًّا. ونحن قلما نسخو بالطاقة الذهنية عندما تتوافر لدينا خيارات أقل كلفة من ذلك فننظر في المتاح لدينا من معلومات مؤطرة لتقدير نصيب القضية من الصدق.

نماذج من صناعة التضليل في مصر

ما أوضحه تقرير «إعلاميون مراقبون» لشهر نوفمبر عام 2015

  • قناة القاهرة والناس في 20 نوفمبر، المذيع أسامة كمال يوجه كلامه للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ويقول: أنت مش شايف اللي اتحقق في مصر من إنجازات وتطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، وبتقول إن الفوضى هتعم مصر! صحيح تنطبق عليك الآية «إنها لا تعمي الأبصار ولكنها تعمي القلوب التي في الصدور» هنا وجه المذيع كلامه لشخص غائب واتهمه بأنه لا يرى ما يتحقق من إنجازات، وكان يجب عليه أن يتصل به ولو على الهاتف ليستفسر منه عن رأيه ليحافظ على قاعدة الإنصاف، كما روى المذيع آية قرآنية دون تدقيق في النطق وقال (إنها لا تعمي) مستخدمًا حرف الياء في (تعمي) والصحيح أنها (تعمى) بالألف اللينة.
  • قناة القاهرة والناس في 18 نوفمبر، إبراهيم عيسى يتحدث عن تصريحات وزير السياحة هشام زعزوع التي قال فيها موجهًا كلامه لروسيا بعد إعلان سقوط الطائرة بقنبلة: «خليك ورا الكداب لحد باب الدار وبعدين قولوا لنا فين الخرم واحنا نسده لكم لكن المشكلة سياسية» إبراهيم عيسى قال لزعزوع تصريحاتك تنم عن ضعف، وبعدين الخرم عندكم أنتم، وأنتم اللي صنعتم الخرم ده. المذيع استخدم نفس لغة الوزير بدلًا من أن يتجنبها، بل وزاد عليها وأخذ يهاجم الوزير بدلًا من محاولة مناقشة القضية بموضوعية لتنوير المشاهد، واختلط الرأي بالمعلومة تمامًا، حيث تحدث الوزير عن رأيه وهو ما فعله المذيع أيضًا؛ فغابت المعلومة تمامًا عن المشاهد مما أدى إلى غياب الدقة تمامًا.
  • في حلقة بتاريخ 17 نوفمبر 2015، قال سيد علي مقدم برنامج «حضرة المواطن» على قناة «العاصمة»: «فيه حاجة اسمها النحس، رغم إني لا أؤمن بالمسألة وأرجو شريف إسماعيل (ميزعلش) من اللي هقوله، ولكن الوزارة من يوم ما جات النحس ملازمنا، وفي الريف بيقولوا غير العتبة، تعالوا نؤمن بالنحس ونغير العتبة احتمال الأمور تتعدل». تعليقات المذيع سيد علي جاءت عقب ظهور نتائج التحقيقات التي أعلنتها روسيا بشأن سقوط الطائرة في سيناء، وقالت إن الطائرة سقطت بقنبلة هنا استخدم المذيع لغة مسيئة للحكومة ولا علاقة لها بأول أهداف المهنة وهي التنوير، وبدلًا من نقاش قضية سقوط الطائرة بشكل علمي تحدث عن النحس وربطه بما يحيط بمصر، وهو أيضًا حديث غير موضوعي ويبتعد عن اللغة الإعلامية الرصينة، والتي تسمح للمذيع أن يعلق على الأنباء ولكن لتوضيح المعلومات.

القاعدة السادسة: «السلطة تنحو إلى الإفساد، والسلطة المطلقة تُفسد بصورة مطلقة» اللورد آكتون.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد