بعد خمس أو يزيد على الربيع الذي وصفهُ السواد الأعظم من الشعوب العربية بالخريف، يزداد التبصر في المستقبل القريب والتفرس في نهاية لهذه الدوامة من العواصف التي تمخض عنها طفل لقيط، لم يعد المثقف ولا الواعي ولا المتخصص يدرك صورة له ولمستقبل ما ولدته الشطحات الشعبية الغاضبة والناقمة على صورة القائد الرمزي، والضاربة للقومية والوطنية والمطالبة السلمية بالحقوق والسكوت على الفشل في الحكم عرض الحائط. فهل ما سيكون بعد حينٍ بعيد وليس قريبًا على الأقل عشر سنين أو يزيد، إعادة بناء للهيكل السياسي للدولة المقومة هذه المرة على الديمقراطية والمشاركة الشعبية والحوكمة السياسية؟ ولعل النزاعات الآنية شبيهة بحرب الثلاثين عامًا في أوروبا على حد وصف هنري كيسنجر في كتابه النظام العالمي؟ وما مستقبل العرب في ظل حاضر مكدس بالتناقضات؟
ساهمت الهبة الشعبية في أركان الوطن العربي من ثورة الياسمين حتى اليوم في تشكيل صورة جديدة للعالم العربي، وإعادة تقييم لمدخلات النشاط الليبرالي الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، والذي لم يحقق الغاية المرجوة منه نتيجة عدم إدراك خصائص المنطقة من جهة، والتصور المسبق لشعوب المنطقة قبالة أي مبادرة أمريكية أو غربية على اعتبارها إمبريالية واستعمارًا جديدًا يخدم المصالح الذاتية للدول المهيمنة على نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال مؤسساتها المالية ومنظماتها العالمية التي تحوز فيها اليد العليا وتوجهها حسب متطلباتها الشخصية ورغباتها الذاتية.
فاليوم أكثر من أي وقت سابق في التاريخ العربي الممتد آلاف الأميال من البحر إلى الخليج، يعيش المواطن العربي حالة اغتراب وانعزال وترقب للقادم بين مطرقة الأنظمة الغاشمة وسندان الإرهاب، الذي كان لميوعة مركزية الدولة وكل مظاهر الدولة الرخوة والفاشلة دور في تطويره من كيان تقليدي إلى ظاهرة خارقة، تضرب العواصم من القطب إلى القطب الآخر عربية وعجمية، وهجمات باريس وبروكسل وقيرغستان وأندونيسيا استفحال للظاهرة.
وأمام التحديات التي تزداد باطراد مرعب، يساهم الفاعل الأجنبي في محاولة لصياغة أنظمة جديدة تتسم بالمرونة والحوكمة والرشادة في التسيير، وتبني العقيدة الليبرالية والتحرر الاقتصادي عمادًا لتشكيل المستقبل المزهر الذي خرجت المليونيات في سبيل تشكيله من مجرد صورة تسبح في خيال الفكر إلى حقيقة تتمركز أمام الناظر، كتحول راديكالي من الظلام إلى النور، من الانكماش إلى التوسع الاقتصادي، من التراجع الحقوقي إلى سماحة وصفاء سماء الديمقراطية.
إن ما عايشته الأمم الأوروبية في أهلكِ عصورها الفانية والتي أسست لنظامِ «وستفالي» بامتياز، أفضى في الأخير إلى تطوير الدولة بصورتها الحالية واعتناق العلمانية كرافعة للنمو بكل تصوراته المتوقعة، وحشر الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية في زوايا الكنائس، خلق في النهاية ما عرف بالتنوير والأفكار السياسية المعاصرة التي تمجد الفرد وترفض القصر والتمييز لصالح القوي على حساب الضعيف، وما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلا نافلة رحلة امتدت لتصل بعد سنوات عجاف شهدتها القارة، وليست نتيجة نزاع واحد أو ربيع أوروبي قروسطي.
وعلى غرار القارة الأوروبية، شهد العالم العربي تنوير الإسلام والذي قاده في النهاية إلى بلاد ما وراء النهرين وحتى انتكاسة بلاط الشهداء، وهو لم يكن في حاجة إلى علمانية أو أفكار العقد الاجتماعي، وهوبس، وروسو، وميل، ليقوده إلى بر الأمان. فتعاليم الإسلام وثقافة السماحة والتعاون، والبذل من أجل الصالح العام، والتآخي والتعايش بين المجتمعات، وحمل رسالة السلام إلى العالم كاملًا دون تمييز أو تقصير؛ هو ما شكل الأساس لحضارة امتدت إلى أقاصي الكون وعرفها المؤرخون الأجانب المعتدلون منهم بالحضارة البيضاء، وحاضرة الأديان والسلام، وبغداد مثال حي؛ فهي مدينة السلام تحت حكم هارون الرشيد الخليفة العباسي العادل المفكر الباحث.
إن عالم اليوم على صياغة ونستون تشرشل يتزاحم فيه الماضي والحاضر، والعرب لابد أن يكون لهم محل من الإعراب، فقد كان وسيكون في المستقبل القريب أخذًا بالحسبان ما يميز العرب عن غيرهم من المجتمعات هو حقًّا ما يقودهم للهلاك، لكنه سيعود بهم للأمان ولمناوشة إرهاصات العولمة والمد الاستهلاكي، والخنوع لمنهج للهيمنة الفكرية الغربية، واستيراد نماذج لا يمكن أن تحقق الفلاح في مجتمع يتخصص عن أقرانه من أبناء المعمورة بخصائص وخصال صقلتها سنوات استطالت، واختلط فيها العنف مع العدل حتى بات الإنسان العربي بكل خصائصه ومميزاته قادرًا على التحول لمرونته وبلاغته وتمكنه من الفهم والاستيعاب.
إن أول الحلول وعماد النجاح والخروج من دوامات الدم والفشل الهيكلي يكون داخليًّا بامتياز؛ فلا الغرب ولا الشرق قادر على تصدير النموذج الصحيح. فإن إقامة دولة الحق والدولة المدنية القادرة اقتصاديًّا على توزيع الدخل وتوفير الأمن والأمان والصحة والتعليم ومستقبل مزهر، والخروج من ذيل الترقيم العالمي إلى الصدارة في مختلف المجالات؛ يكون من الداخل، من أبناء الشعب، من عصارة أفكارهم ومن إرادتهم نحو التحسين، واعتقادهم الجازم ببعضهم البعض، وإيمان العربي بقدرة أخيه على مساندته وتصنيفه صديقًا دائمًا، لا صديقًا يتغير بتغير المصالح بنظرة ميكيافلّية بامتياز يرفضها الإسلام.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
العرب