مرحلة سقوط الأقنعة والنخب، مرحلة الانتقاء والاصطفاء والفرز، مرحلة اختيار طريق واحد من أحد طريقين إما الحق وإما الباطل، أثبتت الشعوب العربية خلال هذه المرحلة أنها شعوب لا تستحق الثورات، وأن تلك الثورات ليست إلا خطيئة كبرى، فتلك شعوبٌ جبلت على العبودية ولم تعرف معنى أن تكون حرة، لم تعِ يومًا أن لديها مقدرات وخيرات هي من حق الجميع وليست حكرًا على فرد يوزعها كيفما يشاء لأنه السلطان!

عروبتُنا مثقلةٌ بالمآسي منذ قرون، منذ أن عربد في أراضينا كل طاغٍ متجبر، مرة باسم الاستعمار، ومرات بدافع نشر الثقافة والتحرر لينهب ويسلب مقدرات وخيرات العرب من أجل أرضٍ ووطنٍ يؤمن هو بوجوده وانتمائه إليه.

قامت الشعوب العربية بثورات نوعية على حكومات طاغية، فلم يعرف التاريخ العربي طيلةَ عمره سوى الثورات الفاشلة، ولكن سرعان ما تصالح معهم “فأعداء الأمس صلحاء رفقاء اليوم” بحجج وهمية واهية كأنهم يعرفون مداخل البلاد ومخارجها وأدغالها ودهاليزها، وغاب عنا أنهم صانعوها، زاوجوا على مدار عقدين من الزمن ويزيد بين مؤسسات الدولة السيادية وسلطة رأس المال بكل ما تحمله من فساد وإفساد وطمع وجشع واحتكار، أطلقنا عليه ربيعًا وربما أخطأنا التقدير وكان أحد خريفات العرب المعتادة.

لقد أصبح الوطن العربي بيئة خصبة لنمو الفاسدين خلال سبعين عامًا أُسست خلالها جذور الفساد والمصلحة في أجيال متعاقبة فانجبلت عليها حياتها المعتادة، حتى أصبح هناك أجيال رافضة للتغيير تحقق أغراضها من وراء منافع السلطة وترفض ذهاب صاحب السلطة المتحكم في أمورهم التي ستنهار في النهاية.

لقد أخذت كلمة “الواسطة” تسري في عروق جميع الأجيال العربية التي أصبحت جل حياتها تسير من منطلق هذه الكلمة، فليس غريبًا أن ترى عربيًا في إحدى الدول يبادر من لا يعرفه “ألا تعرف من أنا!” وكأنه وجب على الجميع أن يعامله معاملة السيد وهم العبيد، ليس ذلك خارج الوطن العربي وفقط بل وداخله أيضًاز

فترى من يذنب ويجرم ويرتكب الحماقات ترفع له القبعة لمجرد معرفة أنه “ابن ذلك الشخص أو نسيب ذاك الوزير.. إلخ” وكأنه يقول للجميع سأفعل ما يحلو لي وقتما أريد في أي مكان أريد ولتذهبوا بقوانينكم تلك إلى الجحيم فأنا القانون! أيعقل أن يكون لهكذا أجيال قدرة على التغيير وطلب الحرية؟!

خرج الشباب في يوم من الأيام يطلب الحرية، ذلك الشباب الذي تناسى الطبقات التي انحدر منها وتلك التربية البرجوازية التي نشأ عليها، تناغم وانسجم بعضه مع بعض من أجل حب الوطن، من أجل قضية الحرية التي آمن بها، ولكن سرعان ما ظهرت المصالح حتى في حالات المعتقلين والإفراج عنهم في إحدى فترات الصراع الطويلة ما بعد الربيع، فمن كانت له إحدى العلاقات القوية من رجالات العسكر كان لا يبيت يومًا في زنزانات الحالمين بالحرية.

إن الاعتماد على مثل هؤلاء الأشخاص في بعض الأزمات وبالأخص حالة كهذه، جعلهم يدركون أو بالأحرى يتأكدون ويثقون تمام الثقة أن تلك المجتمعات ليس لها بديل عنهم وأن لا حياة للشعوب سوى بهم، من هذه النقطة أخذ السحر ينقلب على الساحر وبدأت التحضيرات لاحتفالات كبرى تحت اسم ثورة أخرى لاسترداد كراسي السلطة!

أما المطالبون بالحرية لأعوام وعقود عمِلوا خلالها على أن تعلو الحرية والقانون رايات العرب، وأن تستيقظ الشعوب من سباتها الطويل في غياهب الجهل والعبودية، وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها مسلوبي الإرادة التنفيذية غير قادرين على فعل أي شيء، لا يملكون سوى رد الفعل بعد أن كانوا هم الفعل ذاته، فالمؤسسات السيادية التشريعية للدولة لم يمتلكوها يومًا وإن خُيلَ لهم ذلك!

كيف لشعوب خرجت لتطالب بالحرية، وإيمانها بأن لا بديل عن السلطة لتسيير أمور الحياة! لذلك كانت النتائج ملائمة جدًا لما تؤمن به، فكل أمة تسعى إلى ما تؤمن به لا إلى ما تقول، فالأقوال بلا إيمان وهم، فإن كنت تريد شعبًا حرًا فامنحه ثقافة وعلمًا من التنشئة، رَبِّ شعبًا على نبذ الأخطاء وبغضها والقبول والترحيب بكل ما هو صالح والمطالبة بمزيد منهز

وبغض الخوف من الظالم أو المجهول، فالشعوب التي وضعت على رقابها السيوف لفترات ليست بالقليلة لابد وأن تراجع إيمانها بأوطانها مجددًا، وإيمانها بذاتها أيضًا. يجب أن يختلف مفهوم الشعب عبيد لحاكمه إلى العكس؛ الحاكم ما هو إلا أداة ووسيلة لتلبية مطالب أمة مسؤول هو عنها، وإلا فنحن نُهدرُ وقتًا وأرواحًا ونعرض حياتنا إلى خطر لا طائل من ورائه، فلا شعوب تؤمن بك ولا درع تحتمي به ولا مطالب ستحقق. نحتاجُ أجيالاً تنشأ بحرية، تحيا بحرية، حينها نستطيع أن نقول أتى الربيع العربي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد