عندما يعلو النهر بالماء مغرقًا بيتك، ويأتي من يدعوك إلى للصلاة والتضرع إلى الله رب هذا النهر لعله يستثني بيتك، فاعلم إنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إنقاذ البيت من الغرق أو إنقاذ ما فيه على الأقل، والإنصراف عن هذا لأي سبب حتى وإن كان عملًا مقدسًا هو غباء محكم وانحراف عن الفطرة السليمة والمسئولية الإنسانية التي خلقنا الله عليها، فما بالك بمن يدعوك لحضور حفل موسيقي أو حضور مؤتمر اقتصادي، حتى وإن قال لك تعال نبني بيتًا جديدًا، فهو يلهيك عن حقيقة أن بيتك يغرق بمن فيه، ويصرفك عن مسئوليتك في الدفاع عن بيتك بإنقاذه أو على الأقل المحاولة، للأسف، غالبًا ما نتجه صوب جمال العمل الجديد ولطافته، غافلين ما كان علينا أن نعيه أو نفهمه.
هذه الفطرة السليمة التي جعلنا الله خلفاء له في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، وهو تكليف الأمانة التي حَملَها الإنسان، فهي تشمل الإصلاح بين الناس، وتحقيق العدل بينهم، ودفع الظلم والفساد عنهم، والأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر.
ومن المؤكد أن أناسًا بهذه الفطرة السليمة، من الصعب استعبادهم أو استغفالهم، فإذا أحسوا بخطر يتهددهم، أو رأوا ظلمًا من الخليفة أو ملك، عطلوا أشغالهم، وتركوا الأسواق، وهرعوا إلى مساءلة الفاعل، وقد يدعون الحاكم نفسه للمحاكمة والعدل، ونسرد من التاريخ صورًا لمن حافظوا على فطرتهم المجتمعية المسئولة، وأخرى لمن انحرفوا فتركوا البيت للغرق وذهبوا لرسم أفضل اللوحات الفنية على الجدران:
المشهد الأول: المسلمون حينما رأوا الخليفة عمر، ذلك الإمبراطور الذي فتح لهم مصر وإيران وبلاد الروم، يرتدي ثوبًا، من الغنائم الحربية، وهو أطول من أثوابهم بقليل، علت أصواتهم المعارضة لتقسيم الغنائم بالمساواة، لقد صاحوا، لأي شيء ثوبك أطول من ثيابنا، وهم لا فرق عندهم بين عمر أميرهم، إمبراطور الشرق والغرب، وبين جندي من الجنود، لقد أجبروه على المحاكمة لأول مرة، وبدلًا من الثناء عليه، طالبوه بالعدالة، لقد أجبروا عمر على الحضور إلى المسجد، ليجيب الناس بنفسه من غير ممثل أو ناطق عنه، ومن ثم، يأتي ابنه عبد الله شاهدًا معه، ليخاطب الناس ويقول:
“إن سهمي من القماش لم يكفني ثوبًا لطول قامتي، وقد أعطاني ابني عبد الله سهمه من القماش، فأضفته لصنع ثوبي هذا، وباستطاعتكم أن تفتشوا، وتبعثوا وكلاء منكم، لتحققوا كيفما شئتم، فإن عبد الله ليس عنده من هذه القيمة”، هكذا كانت الدراية والمسئولية المجتمعية فلا يسمح باستثناء لأمير أو غفير، فالمساواة والعدل هما القاعدة التي اتفقنا عليها، فإن رأوا انحرافًا عنها قاوموه ومنعوه، فكانوا أناسًا لا يغيرون مجرى التاريخ فقط بل يصنعونه، ويهتمون بمصيرهم بدقة وولع.
المشهد الثاني: في زمن الدولة العباسية، يتزوج جعفر البرمكي من العباسة أخت هارون الرشيد، وأقيمت وليمة الزفاف، وكان حفلًا مهيبًا، ووليمة عظيمة حيث أكل منها أهل بغداد لأيام وبقي الفائض على المواد في الشوارع إلى أن فسد وأصابته العفونة، وخوفًا من انتشار الأمراض لعفنة الأطعمة، اضطروا لاستئجار جماعة لإبعاده عن المدينة، ولم يظهر رجل واحد من المسلمين في كل المجتمع الإسلامي يقول لهم
هذا الطعام الكثير إسراف في الدين، لا عالم ولا فقيه، لا شيخ ولا حارس، لماذا؟ لأنهم انصرفوا إلى بناء بيت جديد وتركوا بيتهم يغرق، فقد انصرفوا لترجمة كتاب فيحصلوا على وزنه ذهبًا، فكانت النتيجة أنه يوم دخول المغول واكتشافهم هذه الديار لم يبق لهم حضارة ولا اقتدار ولا علوم لأن “الدراية الاجتماعية” كانت عديمة، فبدعوة العلم والحضارة والفن والأدب، انصرفوا عن مصيرهم المجتمعي.
وسيظهر الفرق واضحًا بين المشهدين، بين من اهتموا بالشأن العام وحرصوا على مصيرهم، مشدين على يد أميرهم، وبين من انصرفوا عن مسئولتهم ومصيرهم المجتمعي تاركينه في يد حفنة من القيادات والحكام، وقد تجد أن تحريك الأذهان إلى الغفلة عن الشأن العام أو الانحراف والإلهاء بالحقوق الجزئية لتنشغل عن الحقوق الأساسية والحياتية، لا يحتاج إلى دعوتك لفعل أشياء مستهجنة أو غريبة، بل ستجدها كثيرًا رائعة فيدعونك إلى ما تحسبه طيبًا، من أجل أن تنشغل به وفي نفس الوقت تفرط في حق كبير، حق إنسان أو مجتمع، وقد تنشغل بحق آخر فيقضون على حق محق آخر.
وكذلك المسئولية المجتمعية من دفع الظلم وتحقيق العدالة والمساواة التي ننصرف عنها الآن بدعوى هم يعلمون أو متخصصون أو مسئولون تاركين الساحة لهم هو انحراف وضلال عن الفطرة الإنسانية والأمانة الخلقية والصفة الاستخلافية، التي تركها الناس بغير حيلة ولا مقاومة فأصبحوا وقودًا للظلم والجهل يقتات عليهم المستبدون والطغاة، وأصبحنا نستهلك في معارك جانبية وإيهامية بعيدًا عن معركتنا الأساسية، ومسئوليتنا نحو أنفسنا ونحو مجتمعنا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست