قديمًا قرأت حكاية عن مدرسة رسم كانت كلما دخلت حصتها تتوجه مباشرة نحو السبورة لكتابة عنوان الموضوع ورسم نسخة من هذا الموضوع لمطالبة التلاميذ بتقليده، وفي أحد الأيام قامت تلميذة برسم صورة مختلفة للشجرة غير النسخة على السبورة فكانت النتيجة أن سخرت منها هذه المدرسة أمام زملائها وزميلاتها، وحين حاولت التلميذة الدفاع عن ما رسمته مبررة أنها رسمت الشجرة الواقعة أمام منزلها كان رد المدرسة هو تذنيبها برفع يديها طوال الحصة عقابًا لها لتجرؤها على المجادلة.
هذه الحكاية الصغيرة تتكرر كل ساعة وكل دقيقة أمامنا، بل ونمارسها نحن على غيرنا وحتى على أنفسنا فمن منا لم يستعذ بالله من فكرة غريبة في ذهنه وينسبها إلى الشيطان؟

يحدث هذا في كل مكان.. البيت أو الجامعة أو حتى في الشارع وهذه الظاهرة يسميها علماء الاجتماع ظاهرة “سرير بروكست” نسبة إلى لص وقاطع طريق يوناني قديم كان يعاقب ضحاياه بوضعهم على سرير بمقاييس خاصة ويقوم بتقطيع أطرافهم بما يتناسب مع مساحة وحجم هذا السرير.

 

 

هذا البروكست أو المدرسة يمكن أن يكون الأب ويمكن أن يكون الرئيس في العمل أو الأستاذ الجامعي، ويمكن أن تكون الأنا العليا المسيطرة داخل النفس البشرية نفسها وفقًا لتعريف فرويد.

لكن المشترك بين هذه الحالات جميعها هو انضوائها الدائم تحت لواء المجتمع الأبوي الذي يضع فيه طبقة أو مجموعة متجانسة قائمة من المعايير الواضحة والصارمة التي لا يجوز بل وليس هناك آلية ديمقراطية واضحة لخرقها.

وهذا المجتمع الأبوي من الممكن أن يتمثل في الدولة الكهنوتية أو الدولة الوطنية أو القومية أو الفاشية فما يجمعها هو رفض الاختلاف والـ”آخر” المختلف واعتباره خطرًا يهدد وجودها ذاته فهو شيطان أو ساحر أو زنديق أو كافر أو خائن أو عميل وغيرها من المسميات.

وبقدر ما يشوه هذا البروكسي ضحاياه بقدر ما يشوه هذا النظام أفراد مجتمعه، وينمي لديهم قدر عالٍ من الرقابة الذاتية الصارمة للأنا العليا الفردية/ المجتمعية التي تعيد إنتاج القيم التي يفرضها عليهم هذا النظام وتعيد تدويرها داخل النفس لإنتاج سجن من اللوائح والقوانين التي تقيد سلوكيات الفرد فيصبح الفرد ليس فقط حبيس جسده، بل حبيس عقله الواعي وفد يصل الأمر عند البعض لممارسة الرقابة على الأحلام وعمل مونتاج لها.

وبانخراط هذا الفرد في المجتمع يصبح أكثر قدرة على التكيف مع المنظومة وتتعزز لدية مثل هذه القيم المفروضة عليه فرضًا أكثر وأكثر ليصير التفاعل أكثر تعقيدًا ومع الوقت تشتد صلابة مثل هذه القيم في الوعي الجمعي وتنعكس جدلًا على وعي الفرد.

ولكن.. ولأن هذه التركيبة القيمية بطبيعتها ثابتة تظل عاجزة عن الإجابة عن التطلعات والأسئلة الوجودية وحل المشاكل الحياتية للفرد والمجتمع في واقع متغير دائمًا ما تكون فيه الإجابات دائمًا محدودة والأسئلة لا محدودة لا يتبقى لديها سوى المزيد والمزيد من الإخضاع والقمع بكل أشكاله.

فينتج داخل هذا المجتمع محاولات أشد للتعزيز من قيمة وقدر كهنة النظام الأبوي من سياسيين وكهنوت وأركان دولة وتزداد الحاجة إلى المزيد والمزيد من تقديسهم وتبجيلهم وفي المقابل تعزيز وإنتاج حيل دفاعية نفسية واجتماعية وقانونية بشكل مستمر لقتل أي شكل من أشكال الاختلاف في مهده بحجة الحفاظ على السلام الاجتماعي.

 

ويبدو هذا جليًّا في الدستور المصري كمثال فهو يجرم تهديد “السلام الاجتماعي” هذه الكلمة المطاطة, كما يبدو في نصوصنا الثقافية فـ”الفتنة أشد من القتل” و”لا تسألوا عن أشياء أن تبدى لكم تسؤكم” و”أمشي سنة ولا تعدي قناة” و”لا يُفتى ومالك في المدينة” وغيرها من النصوص والقواعد التي ترسخ لمثل هذا الفكر لإجهاض أي محاولة فردية أو جماعية للنقاش أو التساؤل وكسر حالة السلم النفسي والمجتمعي القائم مجادلين بأن “السعادة في الاستقرار وراحة البال”، ولكن هل بالفعل السعادة الحقيقية في راحة البال؟!

 

وهل راحة البال ستأتي دون أجوبة ودون أسئلة؟! أليس المخمور أكثر سعادة من اليقظان؟!

 

أليست راحة البال لدى الحيوان أكثر منها لدى الإنسان؟! حين سئل ابن رشد عن الجنة أشار إلى عقله وقال: “لحظة تأمل لفيلسوف”، فهل هناك سعادة تحت حكم بروكست؟ أم أن ابن رشد على صواب؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

تعليم, عقول, مجتمع
عرض التعليقات
تحميل المزيد