يقص الكاتب الشهير جورج أورويل أنه في مطلع حياته عمل شرطيًا في بورما المستعمرة, وذات يوم كلف بالتعامل مع فيل أبيض أصابته حالة هياج وهاجم المحلات، ولكنه عندما وصل لموقعه وجد حالة الهياج قد انتهت ولم يجد دافعًا لإطلاق النار وقتل الفيل، ولكن حشدًا يبلغ 200 من السكان المحليين كانوا قد اتبعوه في طريقة وقفوا ينتظرون ماذا سيفعل، فوجد أنه إن لم يقتل الفيل سيكون محل سخريتهم أن سار كل هذه المسافة الى الفيل ثم عاد أدراجه بلا فعل شيء، ودار في ذهنه أن هذا سيؤدي لإضعاف سيطرة البيض على المستعمرة ككل، وسيؤدي إلى تجرؤ المحليين عليهم وظنهم الضعف بهم، وما يستتبع ذلك من إشكالات كبرى؛ فقرر أن يتصرف كسيد أبيض قوي حازم وأن يلقي بالمعايير الإنسانية والعقلانية خلف ظهره.
يقول أورويل إن إرادات المحليين هي من ضغطت الزناد وقتلت الفيل لا إرادته, هم من فرضوا عليه ارتكاب الجريمة. في رواية ياسر أحمد التي منعني التفكير من الاستمتاع بها جمهورية القرد الأحمر حملت المشاهد النهائية ما مثل ذروة الحلم الأناركي حيث يحرق الثوار الإعلاميين المنافقين أحياء ويرغمون السياسيين على الاقتتال بأيديهم في الساحات حتى الموت، ويخنقون القيادات الأمنية بقنابل الغاز، أما النشطاء السياسيون الذين استغلوا الثورة للحصول على الشهرة والارتزاق والتحرش بالمعجبات وفتتوا الجبهات الثورية مرضاة لنرجسيتهم وسخافاتهم الأنانية والطفولية فالسحل في شوارع المدينة حتى تتمزق أوصالهم هو المصير.
هل تبدو هذه المشاهد مألوفة؟
إن كانت هذه المشاهد صادفت في قلبك هوى فلا تتعجب فهي أحلام شائعة لكثير جدًا من الشباب بخصوص فئة ما من الآخرين أو غيرها.
ولكن إن كان هذا يمثل حلاً مثاليًا للتعامل مع “أعدائك” ألا يعد هذا تبريرًا لإجرامهم في حقك أن حازوا القدرة على تحقيق أحلامهم قبلك؟ يقول ممدوح عدوان (إن الدولة القمعية لا تضمن استمرارها في مجتمع متماسك، وكما أورثتنا مناقشة قضايا الاستعمار مقولة “فرق تسد” السياسية التي كان الاستعمار يعتمدها فإن الأنظمة القمعية ترث عن هذا الاستعمار الأسلحة ذاتها التي كان يستخدمها، ومن ثم فإن التمزيق الاجتماعي أو التفريق الديني أو الطائفي أو العرقي وإحياء الانتمائات التي من هذا النوع مما نراه في المجتمعات المقموعة هو نتاج هذه الأنظمة بمقدار ما هو سلاحها).
وتقول حنا أردندت (ولقد لوحظ مرارًا أن الإرهاب لا يمكن أن يحكم البشر بإطلاق إلا إذا كانوا معزولين عن بعضهم، ولذلك فإنه من أولويات حكم الطغيان هي إحداث هذه العزلة؛ إذ يمكن أن تكون العزلة بداية للإرهاب، وهي بالتأكيد الأرض الأكثر خصبًا له بينما هو نتيجتها دومًا).
ولكننا لا نحتاج لمثل هذه الكلمات فكلنا قرأ قصة فرعون في القرآن الكريم؛ حيث ثبت أركان حكمة لمصر بجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم ويحرض الباقيين عليهم لأنهم (قومه) كانوا في حقيقة الأمر وبرغم ما قد يظهر عليهم من خفة وغفلة فاسقين. ولا أدرى لماذا تذكرني هذه الكلمات بمن يفسر كل شيء بالصراع ما بين الشعب المصري والإخوان الذين لا أدري من أين ولا متى استوطنوا مصر، ثم يصم كل من يخالفه في حرف بأنه إخواني.
يقول ابن خلدون في مقدمته: (إن المغلوب مولع دومًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده). فلما كانت الغلبة للمستبدين فلا غرابة أن يشيع التشبه بالمتسلط ومحاكاته فيتحول الفرد إلى متسلط يمارس الديكتاتورية في دائرته الصغيرة ويقهر من هم دونه وتحت سلطانه، فنجد الزوج المتسلط على زوجته وأبنائه والموظف المتسلط على الجمهور ومرؤوسيه وهكذا.
وحتى إن أصبح المقهور ثائرًا فبدلاً من إعلاء قيمة الإخاء مع من كانوا إخوانه بالأمس يتحول لقهر غيره، ويكون نسخة من قاهره الذي أشبعه لعنًا بالأمس. وحيث إن الخلاص الفردي في البلدان يكاد ينحصر في الانتقال للمرتبة العليا المهيمنة على كل شيء فيكون طبيعيًا أن يلتصق بها بعض المقهورين البائسين ويدفعوا عنها أملاً في أن يكونوا جزءًا منها يومًا ما، وطالما هذا الالتصاق الحقير مقبول في المجتمع لا يستهجنه فلا أمل.
لم يجد د. مصطفي حجازي مصطلحًا أنسب من (الخصاء الذهني) ليعبر به عن تلك الحالة الظاهرة التي أعيتنا في محاولة فهمها؛ حيث نجد شخص متعلم على قدر من الذكاء يتصرف بإزاء أكاذيب السلطة وكأنه مصاب بتأخر عقلي؛ حيث يؤدي خضوعه لها وانهزاميته إلى انهيار في منهجيته الفكرية ويتحول لصاحب ذهنية متخلفة، يلجئ للتمنيات لخروج سحري من المأزق بدلاً من التفكير في عمل منظم، ولا يستطيع إبقاء الحوار في الموضوع ذاته وإنما يخرج منه دائمًا بتخبط ويناقش أمورًا لا علاقة لها بالموضوع، حتى ينتابك اليأس من محاولة التفاهم معه, والحقيقة أن محاولة التفاهم هنا عبثية، بابها مغلق سلفـًا ولا يفتح إلا بفرض واقع جديد.
يروى أنه قد رفعت إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ورقة مكتوب فيها: اتقّ الله ولا تجر على عباد الله كل الجور. فصعد المنبر وقرأ الورقة وقال: أيها الناس إن الله تعالى سلطني عليكم بأعمالكم فإن أنا مت فأنتم لا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة؛ لأن الله تعالى خلق أمثالي خلقـًا كثيرًا، وإذا لم أكن أنا كان من هو أكثر مني شرًّا وأعظم جورًا وأشد سطوة.
إن كنت تسير في شارع مظلم والخوف ظاهر في خطواتك فنسبة الاعتداء عليك تزداد. وإن كانت نظرتك لنفسك على أنك ضحية فسرعان ما ستجد من يجعلك كذلك, فكما الكلاب تشتم رائحة الخوف فكذلك من يحاكيهم من حثالة البشر, وإن كانت مسئولية الضحية تقوم بإزاء نفسها بعدم التمسك بحقوقها والدفاع عنها بجدية واتخاذ مسلك الفريسة بالظهور بمظهر ضعيف يشجع الطامعين لا تعتبر مبررًا للاعتداء عليها، ولا تخفف من مسئولية المعتدي إلا أنه لا يمكن إغفالها.
أما الشعوب التي تجد الاستبداد أمرًا طبيعيًا والقمع شيئًا متوقعًا من السلطة فلا يمكن أن تحكمها إلا حكومة استبدادية قمعية. جورج أورويل هو من قتل الفيل الأبيض الذي كان جماله وندرته كفيلين بغفران أخطائه، ولكنه لم يكن ليفعل لولا ذلك الحشد حوله وتحريضهم على الفيل بسلبيتهم وخذلانهم لقيمهم الأخلاقية وإعراضهم عن صوت العقل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست