أثناء زيارتي للمعرض المتنقل الذي يستضيفه متحف الفن الإسلامي في الدوحة بعنوان «سوريا سلامًا» للآثار السورية، والذي تُعرض فيه عشرات القطع النادرة التي تنتمي لعصورٍ مختلفة من تاريخ سوريا القديم، بعضها يعود للألفية الثانية ق.م. كحضارة تدمر وحضارة تل حلف، وصولًا إلى عهد الدولة الأموية، لفت نظري أن جميع تلك القطع الأثرية المتميزة تأتي من مختلف متاحف العالم، وليست من سوريا!
جعلني هذا أفكر: هل لو لم تكن قد خرجت تلك القطع الفريدة في أزمنة سابقة عن طريق التهريب مرات أو هدايا من الحكام إلى متاحف العالم الخارجية، هل كانت لتصمد أمام القصف الجوي وحروب الشوارع التي شهدتها سوريا طوال السنوات الماضية؟
وهذا ربما يعيدنا لحالة الجدل التي كثيرًا ما يُعبر عنها كثيرون من محبي الآثار، فهناك اختلاف بين فريقين: فريق ينتابه الأسى والحزن حينما يسمع خبر اختفاء قطعة فنية من متاحفنا أو سوء في التعامل معها، ويغضب حينما يرى أن مصير بعض القطع الأثرية لدينا هو في أحد متاحف الغرب؛ لأن مكانها الطبيعي -في نظره- هو في أرض الوطن حيث تنتمي في الأصل.
ولكن هناك فريقًا آخر يتحدث عن الإهمال واللامبالاة في التعامل مع الآثار لدينا، وعن الأضرار التي لحقت بها، خصوصًا بعد اِشتعال المنطقة بالانتفاضات والثورات، والتي ترتب عليها في بعض البلدان حالة من الفوضى وصلت إلىحروب دامية. يقول ذلك الفريق: هي هناك في أمان أكثر حيث الاهتمام بها ورعايتها من أي إهمال ومن أي سرقة قد تتعرض لها، رغم أن السرقة التي يتحدثون عنها هي في الأغلب سيكون مصيرها تلك المتاحف «الآمنة» في الغرب!
ولكن يبدو أن رأي الفريق الثاني منطقي ومقبول أيضًا؛ فكم تفجير دمر موقعًا أثريًّا في السنوات الماضية؟ لنتذكر الحرب في سوريا، والتي نالت نصيب «الأسد» من حجم الدمار الذي لحق بتراثها! أليس ما تعرضت له مدينة تدمر يعتبر مثالًا واضحًا لحجم الخراب، حينما دمرت داعش في عام 2015 جزءًا هائلًا من آثارها، وتحولت المدينة لساحة صراع بينها وبين جيش بشار؟
دعنا حتى من سوريا، ألم يتم في مصر حرق المَجمع العلمي في أحداث الثورة، أو ما يعرف بأحداث محمد محمود في عام 2011؟ ألم تتضرر واجهة متحف الفن الإسلامي في القاهرة حينما وضعت قنبلة أمام مديرية الأمن في الشارع نفسه؟
يماثل تلك النظرة التحتية التي تقول بأننا غير جديرين بالحفاظ على تراثنا، نظرة فوقية من قِبٓل بعض الغربيين تقول بأنهم هم المؤهلون للحفاظ على هذا التراث الإنساني. مثلًا نرى على مدخل قاعة «غرفة حلب» في متحف الفن الإسلامي ببرلين صورة لمنظر جوي لمدينة حلب تُظهر حطام المدينة والمباني المهدمة، وفي الصورة يشار لموقع المنزل الذي أُخذت منه تلك الغُرفة في عام 1912، كأنه إشارة إلى مصير تلك الغرفة الفريدة إن كانت قد ظلت في حلب.
إذن، هل من الأفضل بالفعل بقاء آثارنا هناك؟ هل هي أكثر أمانًا هناك؟ من يحمي آثارنا؟
برلين تحسم الجدل!

صورة من المعرض المتنقل «سوريا سلامًا» في متحف الفن الإسلامي بالدوحة. تصوير الكاتبة
قصف واجهة قصر المشتى الأموي في برلين

لقد تعرضت الكثير من الآثار المعروضة في متحف برلين أثناء الحرب العالمية الثانية لأضرار بالغة، كما ذكرنا سابقًا، منها ما تم تدميره، وهو ما اعتُبر إحدى أسوأ الخسائر التي حدثت لآثار الشرق الأدنى، ومنها ما تم إنقاذه بتجميع 80 مترًا مكعبًا من شظايا المنحوتات والتماثيل الضخمة وتخزينها حتى عام 2001، حينما بدأ مشروع ترميمها.
ومن ضمن تلك الآثار المهمة «واجهة قصر المشتى» الذي بُني في عهد الدولة الأموية، وقد أهدى واجهة القصر السلطان العثماني إلى قيصر ألمانيا ڤيلهلم الثاني، وتم عرضه في برلين بمتحف Kaiser Friedrich Museum في عام 1903 بارتفاعه الذي بلغ خمسة أمتار، إلا أن ضرب متحف بيرجامون الذي نُقلت إليه واجهة القصر فيما بعد قد أصابه بأضرار بالغة احتاجت أيضًا لأعمال ترميم حتى يصلح للعرض من جديد!
بوابة سوق ميلاتيس: من تركيا إلى ألمانيا

تعود البوابة إلى العهد الروماني في القرن الثاني الميلادى، وقد تعرضت لزلزال عنيف دمرها في القرن العاشر الميلادي. وفي مطلع القرن العشرين، خضعت لأعمال التنقيب من بعثة ألمانية في تركيا، ونُقلت الأطلال الحجرية لبرلين ليتم ترميمها، وتُعرض في متحف بيرجامون الذي تم ضربه في الحرب العالمية الثانية فتحطمت البوابة، وما زاد الأمر سوءًا أنه تم ترميمها ترميمًا سيئًا في عام 1950، ليُعاد الترميم مرة أخرى في مطلع القرن العشرين.
لا يقتصر الضرر على آثار الشرق فقط!
بالطبع لم يصب الضرر فقط ألمانيا ويدمر كثيرًا مما لديها من آثار وتراث إنساني شرقي أو غربي. فألمانيا نفسها ارتكبت جرائم مماثلة تتعلق بتدمير هذا التراث الإنساني في العديد من البلاد التي ضربتها.
فهل هذا الكلام دقيق؟
تفجير جزء من قصر ڤرساي عام 1978
عمليات إرهابية لفرقة البلاك ميتال النرويجية ما بين عامي 1992- 1995
قامت مجموعة البلاك ميتال سين Black Metal Scene في النرويج بمجموعة كبيرة من الجرائم الإرهابية، تعدت الخمسين جريمة، كانت في أساسها تستهدف الكنائس بين عامي 1992- 1995، تم حرق العديد من الكنائس عمدًا، ومنها ما يُعتبر تاريخيًّا ويعود للقرن السابع عشر الميلادي. وحسب أفكارهم كان استهداف الكنائس أو أي دور عبادة هدفًا لتلك الجماعة، والتي لم تختلف أفعالها تلك عن أفعال أي جماعة إرهابية!
حادثة انهيار مبنى أرشيف مدينة كولونيا الألمانية
رغم أن ألمانيا استطاعت خلال الحرب العالمية الثانية حماية محتويات أرشيف مدينة كولونيا Cologne من أي ضرر بسبب الضربات المكثفة لقوات الحلفاء، والتي أصابت -ضمن ما أصابت- وقتها مبنى الأرشيف، وذلك بتخزينها بعيدًا، إلا أنه أثناء حفر خط أنفاق سكك حديدية في عام 2009 في موقع بجانب مبنى الأرشيف حدث انهيار كامل لجميع طوابق مبنى الأرشيف.

تدمير جسر ستاري موست عام 1993 على يد القوات الكرواتية
خلال حرب البوسنة والهرسك، دمرت القوات العسكرية الكرواتية جسر ستاري موست العثماني المبني في القرن السادس عشر، خلال عهد السلطان سليمان القانوني، في مدينة موستار البوسنية، والذي كان يربط الحي المسلم والحي المسيحي. وهو -كما نرى- أثر كان عمره 427 عامًا. أُعيد بناء الجسر من جديد عام 2004.

يتبين من الأمثلة السابقة أن وقوع حوادث أو أعمال تخريبية أو حروب هو أمر وارد في أي بقعة من بقاع الأرض. ربما هو اليوم مكثف في منطقتنا العربية لأسباب معقدة ومتعددة، في حين أن الآثار هناك في الغرب تلقى عناية فائقة.
وبالطبع فإن أهمية توفير الأمن والأمان للـ«إنسان» تسبق الحديث عن ضرورة حفظ ما تركه أجداده من تراث ومعمار وأثر. وأظن أننا حينما نقدر قيمة الإنسان، سنستطيع وقتها حماية تاريخه من الضياع. الحل ليس في وجود الأثر هناك في المتاحف «الآمنة» في الغرب المتحضر. الحل هو الحفاظ على إنسان اليوم، الحل أن ننتبه ونفيق، الحل أن نتحمل نحن مسؤولية حاضرنا وماضينا!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست