في سلسة قصيرة من المقالات، سنعرض لجوانب من دراسة أكاديمية رائدة ومتميزة عن نظريات الرحيل ومفاهيمه والعوامل المؤثرة في حدوثه، صاحب الدراسة هو الروائي والباحث السعودي محمد حسن علوان، الذي عرفناه أديبًا واعدًا، وها نحن الآن نكتشف جانبًا هامًا وجديدًا من شخصيته.
قد يثار سؤال عن مدى أهمية دراسة هكذا ظاهرة، وهل لها من الحضور والآثار ما يجعلها موضعًا لكتابات ودراسات عديدة، قام بها متخصصون تحديدًا في دول وجامعات أمريكا وأوروبا، تجيبنا إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة، والتي تبين أن في العالم اليوم أكثر من مائتي مليون مهاجر، أي ما يعادل سكان دولة قائمة بذاتها من الدول الأكثر تعدادًا على مستوى العالم، ولخلو المكتبة العربية من دراسات دقيقة وموسعة كالتي بين أيدينا عن موضوع هام كالرحيل، الهجرة، التنقلية على تعدد المفاهيم والتعريفات، رأى الباحث أن من واجبه أن يحاول جهده أن يسد الفراغ القائم في هذا المجال، ممهدًا الطريق لمزيد من الأبحاث والدراسات المعنية بهذه الظاهرة الهامة والمؤثرة في حيوات الملايين من البشر.
المقدمة :-
في هذا المقال الافتتاحي سنتناول مقدمة الدراسة وبابها الأول، حيث يطالعنا علوان منذ البدء بجملة لافتة في مقدمته “غرائز البشر تكتب التاريخ”.
مؤسسًا بذلك للرحيل كغريزة بشرية أساسية، ومبينًا أنها تميز الإنسان عن الحيوان، فبرغم أن الحيوان يشارك الإنسان غرائزه الأساسية في الاحتياج الحتمي للمأكل والمشرب والمأوى وربما الرحيل بشكل جزئي، إلا أن غريزة الرحيل تختلف من حيث كونها لا تتخذ طابعًا موسميًّا بشكل صارم في حالة الإنسان، ولا ترتهن استمرارية الرحيل لدى الإنسان، بالظروف البيئية والمناخية التي تحكم هجرة أو انتقال الطيور والحيوانات، كما أن غريزة الرحيل لدى الإنسان على خلاف بقية غرائزه، غريزة متطورة تحورت واتخذت أنماطًا متنوعة في سلوكه البشري عبر مراحل تاريخية متعاقبة.
التعريف:-
بالانتقال إلى الفصل الأول بالكتاب ويدور حول تعريفات الرحيل المتعددة، والاشتباك القائم بينها وبين تعريفات لمصطلحات مقاربة وشبيهة كالهجرةMovement””، أو التنقلية”Mobility”، والتي تصاغ بشكل متباين ومتنوع تبعًا للأهداف ومن ثم الكيانات البحثية أو الرسمية التي تضطلع بمهمة التعريف.
فمن تعريف للرحيل بأنه “تغيير دائم أو شبه دائم لمحل الإقامة” لعالم الاجتماع الأمريكي إيفرست لي، إلى تعريف ريتشارد بيرشود أستاذ القانون الدولي “بأنه عملية انتقال البشر، داخل الحدود أو عبرها لأي مدة كانت ولأي سبب كان”، إلى تعريف من قبل عدد من الباحثين للهجرة بأنها “عملية انتقال دائمة إلى مقر إقامة جديد”، بينما التنقلية “عملية انتقال مؤقتة ومتكررة لفترات متقطعة من الزمن”، مرورًا بنظرة الجهات الحكومية للأمر من زاوية أمنها القومي فلا تعد المهاجرين غير الشرعيين مهاجرين بل متسللين ضد القانون.
فيم يرى الأكاديميون أن الفئة الأخيرة تخضع كغيرها لأغلب تعريفات الهجرة، بغض النظر عن قانونية الفعل ذاته من عدمها، ومن ثم فقد خلص الباحث بعد استطراد مطول إلى أنه لا يوجد مصطلح أو تعريف متفق عليه لوصف ما يقوم به البشر من تنقلات مختلفة، وبالتبعية استخدم مصطلحًا توفيقيًّا بين الهجرة والتنقلية وهو الرحيل، ليعبر عنهما معًا فيما سيلي من فصول الكتاب، مع الاستعانة بمصطلحات أخرى في سياقات متعددة، للتعبير عن أنماط معينة من الرحيل، كالسفر، الغربة، السياحة، التردد… إلخ.
تاريخ الرحيل البشري:-
1- حقبة ما قبل التاريخ “الخروج من أفريقيا”:-
تعد هذه النظرية أقدم توثيق لبداية مشوار الإنسان بالرحيل، وقد أثبت التطور العلمي ممثلًا في علمي الجينات البشرية والأنثروبولوجيا الحيوية، في ثمانينيات القرن الماضي صحة هذه النظرية بشكل قاطع.
وتنص النظرية على أن إنسان الـ”هومو إريكتس” وهي كلمة لاتينية تعني قائم الظهر في دلالة واضحة على تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، قد نشأ في قارة أفريقيا قبل حوالي مليوني سنة، قبل أن يخرج منها قبل حوالي مائتي ألف سنة، وبعيدًا عن السجال المتصل بطبيعة النظرية الخاضعة للتفسير الدارويني الشهير في نشوء الإنسان وارتقائه، فإن الباحث يتناولها هنا من زاوية أنثروبولوجية بحتة، محاولًا بحث الدوافع التي كانت وراء نشأة سلوك الرحيل الغريزي لدى الإنسان البدائي.
ويقرر الباحث أن كل الأبحاث في مرحلة ما قبل التاريخ كشفت حدوث الهجرة فعليًّا، دون الكشف بالضرورة عن العوامل المتسببة في حدوثها، غير أن الافتراض العام أنها أسباب بيئية في المقام الأول، بحيث كان الإنسان البدائي -المعتمد بالأساس على الصيد في غذائه- يهاجر تبعًا لهجرة قطعان الحيوانات المهاجرة بدورها بحثًا عن ظروف بيئية تناسب نظامها الغذائي والحيوي.
يضاف لذلك وجود بعض الدلائل التي تشير لأسباب سياسية أو مناخية وراء هذه الهجرات، وقد اختلف العلماء فيم إذا كان إنسان الـ”هومو إريكتس” قد انقرض أو تطور، إلا أن الثابت أن الأجيال التي أعقبته قد استمرت في الرحيل، وانتشرت في أصقاع جديدة من الأرض كانت غير مأهولة من قبل.
ويعد إنسان الـ”هومو سابينز” الاسم اللاتيني للإنسان المعاصر ويعني “الإنسان الحكيم”، هو أول جيل من الإنسان البدائي الذي امتد نسله بشكل مؤكد حتى اليوم، وقد تميز عن الأجيال التي سبقته بكبر حجم الدماغ الأمر الذي أتاح له أن يعيش حياة أكثر تطورًا، فاكتشف الطهي على النار، وارتدى الملابس، ونقش على الكهوف، واكتشف الزراعة وهو التطور الأهم الذي سينقلنا إلى حقبة جديدة من حقب تطور الرحيل عبر التاريخ.

رسم متخيل للهومو سابينز
2 – حقبة الزراعة:-
ما بين نظرية “الواحة” التي تفسر انتقال الإنسان البدائي من الصيد للزراعة، بسبب موجة من المناخ الجاف اجتاحت ما يعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط، فألجأت البشر والحيوانات إلى الواحات، ونظرية “الموئل” التي تقرر أن وفرة الطعام في نهاية العصر الجليدي قد حدت بالبشر للاستقرار والتوقف عن الارتحال، فتعلموا الزراعة وأقاموا جوار حقولهم، ونظريات أخرى اجتماعية واقتصادية ما بين هذه وهذه، تتضارب التفسيرات التي قادت الإنسان للزراعة.
لكن انعكاس ذلك على سلوكه كان واضحًا من ناحية الاستقرار سياسيًّا واجتماعيًّا، كما تزامن ذلك مع تدجينه للحيوانات وقيامه بتربيتها.

رحى حجرية لطحن الحبوب
والعلاقة بين الزراعة والرحيل مركبة، فقد تسبب الثاني في اكتشاف الأولى، في حين ساعدت الأولى على نمو الثاني وتطوره، إذن يمكن القول أن ارتباط الرحيل بالزراعة والعكس، أدى إلى الدفع بعجلة الإنسانية إلى الأمام بخطى متسارعة في الزمن القديم، بل وإلى الآن بالنظر إلى بعض أنواع الهجرات من القرى للمدن الكبرى، وما يتبع ذلك من تأثيرات على الاقتصاديات الزراعية للدول التي تحدث فيها وإليها مثل هذه الهجرات.
3- حقبة نشوء الحضارات:-
المناخ، إمدادات المياه، الحروب عوامل ثلاثة تحكمت في الهجرات في هذه الحقبة، كما كان لاكتشاف الكتابة الأثر الأبلغ في تكون حضارات بهويات اجتماعية وثقافية مختلفة كالحضارة السومرية والمصرية والإغريقية، وقد غيرت هذه الحقبة من سلوكيات الرحيل تغييرًا كبيرًا، ففي حين استمرت سلوكيات قديمة كالهجرة تبعًا لتغير العوامل البيئية المرتبطة بالزراعة خصوصًا، استُحدثت سلوكيات جديدة أثرت وما زالت على الرحيل البشري حتى الآن كالهجرة لأسباب سياسية أو ثقافية أو قومية، فأضحت الهجرة سبيلًا ربما وحيدًا لتجنب الصدام السياسي، أو مشروعًا للحفاظ على الهوية لدى الأقليات الدينية أو العرقية.
4- العصور الوسطى:-
وفيها برزت مجموعة من العوامل، أثرت بشكل مباشر وربما سلبي في بعض الأحيان على سلوكيات الرحيل البشري وأوجز الباحث هذه العوامل كما يلي:-
-
مجموعة عوامل مفروضة من الدولة كالتهجير القسري وتحريك الجيوش.
- التجارة وما تنطوي عليه من تنقلات التجار، وافتتاح شركات كشركة الهند الشرقية المشهورة التي أسسها البريطانيون.
-
الاستعمار وما يتبعه من نقل للجنود والموظفين والمبشرين والعبيد.
4- العنصرية بجميع أشكالها ومستوياتها كانت سببًا سلبيًّا لدفع الكثيرين إلى الانتقال إلى بيئات أكثر ملاءمة لعيشهم واستقرارهم بشكل دائم كما يأملون.
-
من القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر:-
في القرن الثامن عشر كان الرحيل الجبري طاغيًا لسببين اثنين:-
أولهما ازدهار تجارة العبيد بين أفريقيا وأوروبا والأمريكيتين، وثانيهما التوسعات الاستعمارية للدول الكبرى بما تتضمنه من إجبار السكان على إخلاء أو سكنى مستعمرات ومناطق جديدة تتغير بتغير ظروف الحرب، وخضوعها لسيادة هذا الطرف أو ذاك.
أما في القرن التاسع عشر فقد اختلف الأمر على نحو ما، فقد ارتبطت موجات الرحيل بالحيثيات السياسية لتفكك الإمبراطوريات الكبرى كالعثمانية والروسية والبريطانية، لتحل محلها دويلات قومية ناشئة ومن ثم نشأت تكتلات قومية وعرقية بهذه الدويلات.

قصيدة الشاعرة إيلما لازاروس عن المهاجرين
ساعد على تسهيل عمليات الرحيل أو النزوح الجماعي، تطور وسائل المواصلات، والنُعرات القومية العنصرية المتزايدة، وبحث الأقليات الدائم عن رقعة آمنة وسط عالم متلاطم من العداءات الدينية والعرقية المتصاعدة حدتها، وبحلول القرن العشرين لعبت الحربان العالميتان الدور الحاسم في توجيه مسارات موجات الهجرة الجماعية، سواء في مرحلة ما قبل اندلاع المعارك، أو في أثنائها، أو بعد أن وضعت أوزارها.
كما أدى انحسار وتفكك نفوذ القوى الاستعمارية، إلى رحيل عكسي لمن هاجروا من أوطانهم أو من حاولوا العودة إليها، أو مغادرة رعايا هذه القوى للبلاد التي استوطنوها منذ عقود، وفي أثناء ذلك نشأت دول كانت نتيجة انفصال لأسباب قومية كما حدث في حالة الهند وباكستان، أو لأسباب عقائدية وأيديولوجية كالحال بالنسبة للكيان الصهيوني.
وبتتبع الإحصاءات والتوقعات نجد أنها تشير بوضوح إلى أن معدلات الرحيل في ازدياد مطرد، والعوامل المؤدية لها يزداد تنوعها ويتعاظم دورها الفاعل في دفع الناس للرحيل بشكل غير مسبوق في تاريخ البشر.
فئات الرحيل:-
إلى عالم الاجتماع الأمريكي هنري فيرشيلد، يعود الفضل في تدشين أولى محاولات تصنيف فئات الراحلين في بدايات القرن المنصرم، إلى أربع فئات مرتكزًا على معيارين طريقة الانتقال، ومستوى حضارة البلد الأم، فمثلًا يصنف فيرشيلد الراحلين بطريقة “حربية”، فالراحلون من حضارة أدنى لأعلى يصنفون كغزاة، ولو كانوا من حضارة أعلى إلى حضارة أدنى يصنفون كفاتحين، ولو تساوت الحضارتان فالراحلون مهاجرون، ولو جاءوا بشكل سلمى يصنفون كمستعمرين.
تعرض تصنيف فيرشيلد لانتقادات كثيرة أهمها اتهامه بالتقادم وبالتبسيط… إلخ، إلا أن تصنيفه ظل قائمًا ومعتمدًا لسنوات طويلة، إلى أن جاء ويليام بيترسون عام 1958 بتصنيف حاز شهرة عريضة في الأوساط الأكاديمية، لتعدد معاييره التصنيفية، واشتمل على خمس فئات رئيسية وهي:-
الرحيل البدائي، الرحيل الجبري، الرحيل التحسبي، الرحيل الطوعي، الرحيل الجماعي.
وفي عام 1978، قام تشارلز تيلي عالم الاجتماع الأمريكي أيضًا، بتقديم تصنيف اعتمد على نظام الرحيل نفسه، باستخدام معياري المسافة ومدى التواصل الاجتماعي مع البلد الأم، وشمل تصنيفه فئات أربعة:-
الرحيل الداخلي، الرحيل الدائري، الرحيل المتسلسل، الرحيل المهني.
جاء بعد ذلك جو ستيفن عام 1980 ليصنف الراحلين أنفسهم بوصفهم إما:-
عارض لخدماته العملية، أو مستثمر في رأس ماله البشري، أو مستهلك للمرافق الموجودة ببلد هجرته، وأضاف الباحثان الاقتصاديان جيل شيلدز ومايكل شيلدز عام 1989 فئة رابعة وهي الراحل بوصفه منتجًا لبضاعة محلية ببلد الهجرة.
وهكذا نتبين أن تصنيف فئات الراحلين، خطوة أساسية وهامة قبل الشروع في بحث النظريات التي تفسر سلوك كل فئة من الفئات سالفة الذكر، والعوامل المؤثرة في اتخاذها مثل هذا القرار المصيري، وبحث الرحيل بوجهتيه من الوطن ذهابًا أو عودة إليه، وما قد يوجه لدراسات الرحيل من انتقادات نظرية وعملية، وهو ما سنعمل على عرضه تباعًا فيم يلي من مقالات فحتى ذلك الحين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست