أردت الحديث عن هذا الموضوع انطلاقًا من حادثة وقعت قبل مدة، وهي مقتل السفير الروسي على يد شاب تركي، إذ انتشرت بعدها الأقاويل والتحليلات بين قائل إنه شاب تركي عادي شعر بجراح أمته التي تنزف في حلب فقام بهذا الفعل، وبين قائل بأن جماعة كولن ومخابرات أجنبية متعددة تقف خلف الحادثة؛ لا بل ذهب البعض إلى تحليل لغة الجسد، وحركة الكاميرا، واليوم الذي وقعت فيه الحادثة، ودلالته، ولم يبق لإكمال هذه السيناريوهات سوى الحديث عن لون لباس منفذ هذا العملية، ودلالات هذا اللون!
ليست هذه الحادثة الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة التي انتشرت وتنتشر بعدها مثل هذه التحليلات، فلطالما ومنذ عقود أغُرقت عقولنا بنظريات المؤامرات التي تحاك ليل نهار؛ بل وصل الأمر بالبعض لإلقاء كل مشكلة، أو حادثة تقع في منطقتنا على عاتق نظريات المؤامرات التي تحاك ضدنا ليل نهار، فالربيع العربي مؤامرة، وأحداث 11 سبتمبر مؤامرة وبتدبير المخابرات الأمريكية، وتنظيم الدولة «داعش» مؤامرة وصناعة أمريكية إسرائيلية.
لذلك لا بد لنا من طرح عدد من التساؤلات حول نظريات المؤامرة، فهي ليست واحدة بالطبع، والحديث عن أسباب تبنيها من قبل البعض واندفاعهم بشكل كبير لتصديقها بشكل مطلق.
هل هناك مؤامرات بالفعل؟
من السذاجة والبساطة بمكان القول بعدم وجود مؤامرات تحاك من قبل الأعداء ضد أي أمة، والمعلوم أن أمتنا من أكثر الأمم استهدافًا؛ لموقعها الجيوسياسي المحوري في العالم، ولثرواتها الكبيرة التي تُسيل لعاب الشرق والغرب عليها، ولسبب آخر جوهري، وهو امتلاك هذه الأمة لمفاتيح نهضتها المتمثلة في دينها وعقيدتها، ومحاولات الأمم الأخرى ليل نهار منعها من إمساك هذه المفاتيح مرة أخرى، وإبقاء القيود على هذه الأمة لمنعها من النهوض من جديد.
فالمؤامرات بالتأكيد موجودة وهي تحاك ليل نهار، ولكن المشكلة الحقيقة أن هذه المؤامرات أصبحت مكشوفة بخطوطها العريضة، وما خفي منها إلا التفاصيل، ولم يعد هناك مجال للقول إن هذه الأمور الكبرى التي تحدث في منطقتنا تُدبر بالليل، أو يسُوقها أعداء الأمة إليها دون علم منها أو دراية.
لماذا تلاقي نظريات المؤامرة رواجًا في مجتمعاتنا؟
تتنوع أسباب رواج هذه النظريات في مجتمعاتنا، فمنها:
أولًا: ميل البعض لإيجاد تفسيرات لكل شيء يحدث في منطقتنا وفقًا لرأيه السياسي المسبق، ومن ثم إلصاقه بنظرية المؤامرة دفعة واحدة دون أي بحث، أو قراءة لدلالة الحدث ومؤدياته؛ بل توفيقًا بين الحدث وموقفه السياسي فقط، فعلى سبيل المثال بعد مقتل السفير الروسي في تركيا سارع بعض الكتّاب المقربين من الحكومة التركية إلى اتهام جماعة فتح الله كولن بالاغتيال، رغم أنه لم تُجر بعد تحقيقات حول الحادثة؛ بل فقط لعداء الحكومة مع جماعة كولن تم إلصاق الأمر بها مباشرةً.
ثانيًا: الركون إلى حالة الضعف والوهن التي تعاني منها مجتمعاتنا، وادعاء عدم القدرة على التغيير من قبل البعض، فهؤلاء ينسبون كل شيء إلى المؤامرات لأن هذا الأمر يريحهم نفسيًّا من عناء المواجهة والتحدي لها؛ إذ يقولون دائمًا إن كل ما يحدث هو مؤامرة، ولا طاقة لنا بها، فلنبق على وضعنا الحالي لأننا لا نستطيع فعل شيء.
ثالثًا: يقول أحمد مطر في قصيدته مقاوم بالثرثرة، واصفًا حال الطاغية بشار الأسد حين نشوب الثورة السورية عام 2011:
مقاومٌ بالثرثرة
ممانعٌ بالثرثرة
مقاومٌ لم يرفعِ السِّلاحَ
لمْ يرسل إلى جولانهِ دبابةً أو طائرةْ
لم يطلقِ النّار على العدوِ
لكنْ حينما تكلَّمَ الشّعبُ
صحا من نومهِ
و صاحَ في رجالهِ..
مؤامرة!
مؤامرة!
وحال بشار الأسد لا يختلف كثيرًا عن باقي الحكام الطغاة، إذ دأب هؤلاء دائمًا على ترويج نظريات المؤامرة بين الناس، فلطالما ردد هؤلاء الحكام مقولات من قبيل أن البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية تستهدفها، فإذا طالب الناس بحقوقهم فهذه مؤامرة! وإذا خرجوا في مظاهرات ضد الظلم، والعسف فهذه مؤامرة أيضًا!
وذهب الكثير من الكتّاب والصحافيين التابعيين للحكام إلى وصف ما سمي بالربيع العربي كله بالمؤامرة! ولنا نحن أن نتصور أن أمريكا ودول الغرب التي أبقت هؤلاء الحكام وهذه الحكومات، وحمتها على مدار العقود الماضية هي التي تآمرت الآن مع الشعوب المطالبة بأبسط حقوقها لتزيل هؤلاء الحكام!
في النهاية لا بد لنا أن نكف عن صناعة رجل القش المتمثل بنظريات المؤامرة، وإلقاء كل لوم أو ضعف فينا عليها، وعلى ما يحيكه الأعداء لنا؛ بل لا بد لنا من موازنة منطقية بين معرفة أسباب ضعفنا الداخلية المتعلقة بمجتمعاتنا، وفي الوقت نفسه معرفة المخططات، والتآمرات التي يخططها أعداؤنا لنا ،أما بالنسبة للشاب التركي الذي قتل السفير الروسي، فربما الأمر لم يكن كما صوره البعض بأن الشاب تحركه مخابرات دول أخرى، ولا أفلام هوليوودية غامضة صنعها البعض الآخر في مخيلته، ربما هو شاب تركي بسيط تأثر بمشاهد القتل لأطفال ونساء حلب، ومشاهد تشريدهم من أرضهم؛ فانتفض وقرر الانتقام لهم بهذه الطريقة، وهذا هو كل ما في الأمر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست