يبدأ الإنسان حياته بصرخة قوية إما أن يُطْلِقها متطوعا أو يُدْفع دفعا لإطلاقها، فيبكي ويضحك الآخرون لذة ببكائه، فتكون اللحظة الأولى في حياة الإنسان خليطًا بين الألم واللذة، فيتعلم الإنسان منذ اللحظة الأولى أن هذه هي الحياة خليط من الألم واللذة.
ثم يبدأ الطفل في التعرف على معنى الحياة من خلال النموذج المعد مسبقا من خلال آلاف السنين التي عاشها البشر على الأرض، أي أن الطفل لا يجد الحرية في التعرف على الحياة ولكنه ينخرط في نموذج أعده الكبار وفق ما خبروه في هذه الحياة، فتتشكل قيمه وأفكاره التي لا تخرج كلها عن أن الحياة هي رحلة لتحقيق النجاح وتجنب مرارة الفشل – وكل طائفة تضع مفهومها الخاص للنجاح والفشل – أي أن الحياة محاولة لاجتلاب اللذة ودفع الألم.
وعندما يعي الطفل ذلك – أو حتى بدون وعي – يجد نفسه مدفوعا لامتلاك الأدوات التي تمكنه من تحقيق ذلك كالدين والعلم والقوة الجسدية، وتصبح الحياة بالنسبة له هي صراع وتنافس في سبيل تحقيق النجاح ودفع الفشل.
بعدها يكبر الطفل ويندفع في سوق الحياة شابا طموحا ممتلئا بالطاقة والرغبة في تحقيق الذات وفق القواعد التي تعلمها على يد الكبار، وهنا يجد أمامه طريقين؛ إما طريق ممهد يمكنه من تحقيق النجاح (كعائلة ثرية أو مهارة عقلية وجسدية أو انتماء لدين هو الحقيقة المطلقة أو امتلاك سلطة أو عمل جيد…)، وإما أنه لا يجد طريقا لتحقيق النجاح وهنا يكون عليه إما أن يشق طريقا خاصا به بأية وسيلة مشروعة أو غير مشروعة ليحقق من خلاله النجاح، أو أنه لا يجد طريقا فيصنع لنفسه وسيلة من وسائل الهروب كالمخدرات أو الانتماء لجماعة وطائفة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى مجموعة من الأصدقاء أو تشجيع نادٍ من الأندية بتعصب.
وهو في الحالتين يعاني من سعار التنافس والصراع ومحاولة تحقيق النجاح والهروب من الفشل أو بمعنى آخر تحقيق اللذة ودفع الألم، وبهذا يقضي فترة شبابه في هذا الصراع المجنون، يظن أن الحياة خالدة له، ويسعى إلى تحقيق النموذج الناجح الذي حدد المجتمع معاييره وصفاته، وبهذا يكون العمل غاية، والمال دليلا على النجاح، والزواج علاقة يعلن بها للمجتمع نجاحه في تحقيق النموذج الذي ارتضوه، فلا يفعل شيئا إلا وعينه على هدف النجاح.
أما الفاشل الذي لا يحقق النموذج المجتمعي للنجاح، فهو منشغل بوسيلته للهروب منتظرا أن تتهيأ له الظروف ليترك هذه الوسيلة ويحقق نموذج النجاح، ووقتها سيترك المخدرات أو طائفته أو ناديه أو غيرها من وسائل الهروب كي يحقق النموذج المجتمعي للنجاح وفي نهاية مرحلة الشباب تبدأ مرحلة الحياة فوق القمة والاستمرار عليها، فيعيش الإنسان فوق قمة النجاح الذي حققه ملتذا به، وإما يعيش فوق قمة الفشل، وتبدأ هذه المرحلة بالتقييم حيث يبدأ الإنسان في تقييم ما حققه حتى اللحظة.
فإن اعتبره ناجحا شعر باللذة وشعر بالألم حيث القلق لفقدان هذا النجاح لأن المستقبل غير مضمون، فهو ربما يفلس أو يصاب بمرض أو حادث أو يخدعه الشيطان فيترك نجاحه الديني، أو يصاب بالملل من الزواج فيفقد الأسرة التي كوَّنها بالجهد والصبر.
وفي هذه الحالة تجده يختار كل الاختيارات الممكنة التي تمكنه من الحفاظ على نجاحه والبقاء فيختار الآراء الدينية المتماشية مع نجاحه، والحياة الأقل صخبا حفاظا على صحته للحفاظ على نجاحه، والاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي كي يستقر نجاحه، والاستقرار الأسري ومحاولة التحكم في مسيرة أبنائه كي يسيروا على دربه فيحافظون على ما حققه من نجاحات (وبهذا يعيد تشكيل إنسان جديد وفق نفس النموذج الذي وضعه الكبار).
وإن قيم مسيرة شبابه ووجد أنه لم يحقق النجاح المطلوب منه، فهو لابد أن يجد مهربًا، إما في الأبناء باعتبارهم أمله في أن يحققوا النجاح الذي لم يستطع هو أن يحققه (فيجتهد في تربيتهم على نفس النموذج الذي وضعه الكبار للنجاح ولم يستطع هو تحقيقه)، وإما في اختيار الآراء الدينية التي تعوض فشله من خلال التهوين من شأن الدنيا فيتجه للزهد والرضا بالمقسوم، والاجتهاد في حرمان نفسه من الدنيا حتى يصبح الألم من الحرمان هو مصدر اللذة، ويسخط على الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي لم يمكنه من النجاح، أو ينخرط في الانتماء لمجموعات كبرى تحقق النجاح فيشعر معها أنه ناجح كالأحزاب والجماعات والأندية الرياضية وغيرها، أو يعاقب المجتمع بأن يسرق لذته منه بالتحرش أو قبول الرشوة أو… إلخ.
وعندما يبدأ الإنسان مرحلة النهاية، فهو إما يكون ناجحا أو فاشلا كبيرا، فإن كان ناجحًا إما أن يخدعه نجاحه فلا يرى مرحلة النهاية ويعيش في غفلة، فيستمر في الصراع والتنافس، وإما أن لا يشعر بالغفلة فيختار استمرارية نجاحاته، فيبدأ في التقرب إلى الله ورشوته من خلال العبادات وتوالي الحج والعمرة والسيطرة على المسجد المجاور للمنزل بالأذان وإمامة الصلاة فيه، فهو ناجح ولابد أن يكون في مقدمة الصفوف دائما، ولابد مثلما حقق النجاح الدنيوي أن يحقق النجاح الأخروي بأداء بعض الطقوس والتبرع ببعض المال.
وإن كان فاشلا، فهو إما يعوض فشله بنجاح أبنائه فتجده يفتخر في كل مكان بأن ابنه الدكتور فلان وابنته المهندسة فلانة قد فعلا كذا وكذا، ويمتلكان كذا وكذا، وأن أبناءهم في مدارس أجنبية مصاريفها بالدولار، أو أنه يصاب بالانسحاب والعزلة والاكتئاب لإخفاقه الدنيوي وربما سعى في هذه الحالة لتحقيق النجاح الأخروي من خلال العبادات والطقوس أيضًا.
ومما سبق يتضح أن الشعور الملازم للإنسان في كل فترات حياته هو الخوف، الخوف بشقيه إما الخوف (على) أو الخوف (مِن)، ولعلك تستطيع أن تحكم على حياة يسيطر عليها الخوف، فهي شقاء سواء كان الإنسان فيها ناجحًا أو فاشلا.
وهذا الخوف هو الذي يشكل الإنسان حيث هو الذي يحدد معتقداته وانتماءاته وطموحاته وأفعاله وقراراته، وكل أمور حياته، وكأمثلة على ذلك:
الخوف هو الذي يحدد علاقته بالدين، فهو إن أصاب له النعيم وإن أخفق له النار والعقاب، والسلطة الروحية تخبره أنه مجرد عبد عند الله يفعل به ما يشاء لذلك لابد أن يخاف منه ويجتهد ليرضيه، وهذا الاجتهاد يكمن في مطاوعة السلطة الروحية، وتنفيذ أوامرها في كل تفاصيل الحياة حتى وإن تدخلت في طريقة لباسه، أو تطهره من بوله، وإلا فإن عقابا شديدا بانتظاره، إما في الدنيا وهذا عقاب خطير لأنه قد يدمر نجاحات الناجح، أو في الآخرة وهذا عقاب أخطر لأنه سيقطع مسيرة نجاح الناجح، ويكمل مسيرة إخفاق الفاشل، وبهذا الخوف يتحول الدين من وسيلة تحقيق الأمان للإنسان إلى مصدر خوف وإزعاج له.
الخوف هو الذي يحدد انتماءات الإنسان، فخوف الناجح على نجاحاته يجعله أسيرًا لكل انتماء يحفظ له نجاحه حتى وإن كان انتماء لا أخلاقيا، فهو يدور معه أينما دار، وبالتالي يختار الإنسان انتماءً إلى مجموعة أو طائفة أو بلد، فيعلي هذا الانتماء فوق كل الاختيارات الأخرى ليشعر معها بالنجاح لأنها الأفضل من بين كل الاختيارات الأخرى، وبالتالي يرى أن مجموعته هي التي تملك الحق المطلق والتي تعبر عن الصواب المطلق.
الخوف هو الذي يحدد طموحات وأفعال وقرارات الإنسان، ففي مجتمعنا مثلا يختار الزواج خوفا من الوحدة أو خوفا من ألا يحقق النموذج المجتمعي للنجاح والذي فيه لا يحقق الإنسان إلا إذا تزوج وأنجب، وخوفا من أن يصبح منبوذا في مجتمعه مخالفا لكل من حوله، وخوفا من ألا يجد الحب، فيبدو أمام الناس كأنه لم يجد من يحبه وأن أحدا لم يجد فيه صفات يستحق معها أن يكون محبوبًا، فيجعل قبول الطرف الآخر الزواج منه دليلا على أنه يملك صفات جيدة، وهو نفسه الخوف الذي يجعله متشبثا بالزواج الفاشل لأن ترْك هذا الزواج يعتبره المجتمع فشلا حتى ولو كان الزواج فاشلا، وهو نفسه الخوف الذي يجعله يتمسك بعمله الممل حتى لا يُحْسب فاشلا.
وهنا لابد من الإجابة على سؤال هام وهو: كيف نتخلص من هذا الخوف؟ ويستتبع هذا السؤال أسئلة أخرى مثل: وهل هذا الخوف ضرورة؟ وهل هو الدافع لنا للإنجاز أم هو معطل لقوانا وإنجازنا؟ وستكون إجابات هذه الأسئلة في المقال القادم بإذن الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست