يعتقد فريق من الاقتصاديين أن أشد الناس جهلًا بالواقع الاقتصادي هم الاقتصاديون أنفسهم، وذلك بسبب تعنتهم المنهجي مع الواقع، فيومًا بعد يوم يتجه الاقتصاديون إلى المزيد من الغرق في النماذج الرياضية التي صنعوها في أذهانهم بمنهجهم القبلي العتيد، وهي نماذج بعيدة عن الواقع تمامًا، وهذا ليس رأيي وحدي بالطبع في تقييم ما يفعله الاقتصاديون، بل هو رأي عقول ثاقبة مطلعة بعمق على أسرار مهنة الاقتصاديين، ولعل هذا ما جعل اقتصاديًّا مثل جون ماينار كينز يقول: «إنك إذا طلبت من ستة اقتصاديين أن يخبروك برأيهم في قضية ما حصلت منهم على سبعة آراء»، وتروى هذه القصة الطريفة عن أستاذة الاقتصاد البريطانية في جامعة كمبريدج، جوان روبنسون، وهي أن زميلًا لها في جامعتها نفسها، وهو أستاذ للرياضيات قال لها باندهاش شديد: «لقد لاحظت على أسئلة الامتحانات التي تضعونها لطلبة الاقتصاد أنها لا تكاد تتغير بين عام وآخر، بل لعلها هي الأسئلة نفسها التي تكررونها كل سنة، بينما نحن الرياضيون لا بد أن نغير الأسئلة باستمرار، حتى لا يكون من الممكن للطالب النجاح في الامتحان بمجرد حفظ إجابات الأسئلة الماضية، فكيف تستطيعون أنتم الاقتصاديون أن تميزوا بين الطالب النجيب وغير النجيب وأسئلتكم ثابتة لا تتغير؟»، أجابته الأستاذة روبنسون ضاحكة: «صحيح أننا لا نغير الأسئلة من عام لآخر، وذلك لسبب بسيط جدًّا هو أننا نغير الأجوبة».
وفي كتابها «الفلسفة الاقتصادية» خلصت روبنسون إلى أن المشكلة الرئيسية في الاقتصاد بصفته علمًا هو افتقاره إلى طرق التجريب، فالاقتصاديون لا يرون أنفسهم ملزمين بالتقليل من المفاهيم الميتافيزيقية والتحول نحو العبارات القابلة للتفنيد، ولا يمكنهم إجبار بعضهم بعضًا على الموافقة على ما تم تفنيده، لذلك يعرج علم الاقتصاد بقدم واحدة على طول الفرضيات التي لم تختبر بعد، وبالقدم الأخرى على شعارات غير قابلة للفحص. ولعل سر تهرب الاقتصاديين من مناهج التجريب هو خوفهم الشديد من ألا يمسكوا بين أيديهم أي نظرية إذا هم عرضوها فعلًا لمحك التجربة، قال فرانك هان ذات مرة: ليس من السهل أن تفكر في افتراض في علم الاقتصاد، ذلك أن جميع الاقتصاديين العقلاء يوافقون على تفنيدها بشكل حاسم من خلال الدليل.
إن التيار الأساسي الحديث في علم الاقتصاد يعي جيدًا حجم القصور المنهجي الذي يعتوره، ويعي بالدرجة ذاتها أن دور الاقتصاديين هو الحفاظ على هذا المنهج مهما كلف الأمر فمن خلاله فقط يجري إبعاد الناس عن فهم حقيقة الواقع الاقتصادي، فقد أصبح دور الاقتصاديين هو التعمية على الواقع حتى لا يفهمه الإنسان العادي، لأن فهم الإنسان العادي للاقتصاد من شأنه أن يعجل بانهيار الخيمة الكبيرة التي نصبها علم الاقتصاد للرأسمالية منذ أربعة قرون كي تقيم فيها جميع حفلاتها الرسمية دون إزعاج.
وفي المراحل المتأخرة اختار علم الاقتصاد أن يحصن نفسه من جميع أخطار الانهيار خصوصًا بعد الهجوم الذي شنه ضده السلوكيون، فقرر بلا رجعة أن يتزوج الرياضيات حتى يوقف ركض السلوكيين وراءه وهم يطالبون بالدليل التجريبي. أظهر كولاندر وكلامر في بحث لهما أجرياه سنة 1988 أن الطلاب في كليات الدراسات العليا الأمريكية يدركون بوضوح أن القدرة التحليلية الرياضية هي الشرط الرئيسي للتقدم المهني بالنسبة للاقتصاديين، وليس معرفة الواقع الاقتصادي الحقيقي وفهم الطريقة التي يسير بها الاقتصاد العالمي، أو الاطلاع على الأدب الاقتصادي الذي خلفه الاقتصاديون الكلاسيكيون، فعادة ما يكون طلاب أقسام الاقتصاد مراقبين دهاة للمهنة التي تورطوا فيها، ولديهم حاسة شم مرهفة «للأجندة الخفية» في حقل علم الاقتصاد. من الواضح – يقول الكاتبان- أن طلاب الدراسات العليا الأمريكيين قد أدركوا بشكل بات أنه لا شيء ينجح في علم الاقتصاد مثل المفرقعات الرياضية، مستكملة في بعض الأحيان ببعض الاقتصاد القياسي المنمق. وحتى لا نظلم الاقتصاديين سنطرح بين أيديكم قائمة مثالية صاغها مارك بلوج عن النظريات التي أثارت ضجة في علم الاقتصاد ثم سقطت سقوطًا مدويًّا وجرى رفضها تمامًا:
1- الرفض بالجملة لمنحنى فيليبس في سبعينيات القرن العشرين، والذي فسر على أنه مقايضة ثابتة بين التضخم والبطالة.
2- الرفض لسرعة ثابتة للنقود في الثمانينيات من القرن نفسه، مما أفسد فكرة أنه يمكن التحكم في التضخم بمجرد السيطرة على المعروض من النقود، حتى تخفيضه إلى الصفر في عامين أو ثلاثة أعوام.
3- الرفض مرة أخرى في الثمانينيات لافتراض أن التوقعات العقلانية تجعل من المستحيل تغيير الناتج الحقيقي أو التوظيف بواسطة السياسة النقدية أو المالية.
4- الرفض في مكان ما في الستينيات لقانون باولي، الذي يعلن عن ثبات الحصص النسبية للدخل القومي المتجه إلى رأس المال والعمل، وبالمثل القانون الذي يعرفه الجميع لثبات نسبة رأس المال إلى الناتج في الاقتصاد ككل.
5- الرفض في الخمسينيات لدالة الاستهلاك الكينزية مما يجعل الاستهلاك الحالي دالة فقط للدخل الحالي.
6- الرفض في الثلاثينيات لوجهة نظر خزانة الدولة عن التزاحم الإجمالي للإنفاق العام في أوقات الكساد.
7- الرفض مرة أخرى في الثلاثينيات لفرضية أن الأجور الحقيقية تتقلب باتجاه عكسي دوريًّا.
ويمكن للمرء أن يذهب إلى غير حد في توسيع الأمثلة عن تراجع الاقتصاديين ورفضهم لنظريات اقتصادية كانوا في وقت ما يعدونها المقابل الاقتصادي لنظريات نيوتن في الفيزياء. فهذه الأمثلة تلغي الفكرة التي يريد التيار الأساسي الحديث ترسيخها من خلال استعماله المفرط للرياضيات وهي: أن النظريات الاقتصادية مثل الجنود القدامى، لا تموت أبدًا، بل تتلاشى فقط، فقد اتضح الآن أن هذه الفكرة هي ببساطة مجرد أسطورة يكرسها التكرار المستمر.
وما ذكرته الآن في علم الاقتصاد يمكن تعميمه بشكل أو بآخر على بقية العلوم الاجتماعية، فالحداثة العلمانية صنعت كل العلوم الاجتماعية لا لكشف الحقيقة للإنسان بل لمنعها عنه والتحكم فيه، ويعجبني ما قاله الناقد العراقي عبد الله إبراهيم عن حقيقة البحث الاجتماعي حين قال:
لا يوجد باحث اجتماعي، منذ نشأة العلوم الاجتماعية وحتى وقتنا الحاضر لم ينجح – حسب ظنه- في إثبات علمية الفكرة التي انطلق منها، وعند هذه النقطة يظهر الوجه الآخر من الصورة ذاتها، فالأسباب نفسها التي فرضت سهولة تحول الفكرة إلى نظرية على حساب المعاينة، تفرض في الوقت نفسه نمطًا من أنماط المعاينة ينتهي إلى إثبات علمية الفكرة على الدوام، ومن ثم يعاد إنتاج الاختلافات والتباينات بين الباحثين الاجتماعيين، لأن كل باحث بينهم يصل إلى إثبات علمية فكرته، في موضوع البحث نفسه الذي يكون الباحث الآخر قد أثبت علمية فكرته فيه، ولو كانت الفكرتان مختلفتين ومتباينتين ومتعارضتين.
إن الأكاديميا الغربية كانت ولا تزال هي الخادم الأمين للرؤية العلمانية للكون والحياة، وهي رؤية نفعية اختزالية مادية لا تمكن صاحبها من معرفة الحقيقة المركبة، ومن هنا لا أجد ما أختم به مقالي هذا أحسن من مقولة عبد الوهاب المسيري الذي طلق الأكاديميا واستقال من الجامعة لكثرة الزيف في العلوم الاجتماعية الأكاديمية، وقال هذه العبارة: «رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست