لماذا يمتنع معظم المسلمين اليوم عن استخدام العقل؟ لماذا يكتفون بما عرفوه من معلومات؟ لماذا يركنون إلى الكسل الفكري؟
في الحقيقة هناك عدة عوامل:
عندما يكون استخدام العقل أمرًا من أوامر الخالق، فلا يحق للمخلوق بعد ذلك أن يعطله؛ مرضاة لأحد، أو خوفًا من بطش آخر، ولو كان هذا المانع جمهرة من الخلق تتمثَّل في الجماعات وتتعاقب مع الأجيال.
والموانع التي تعطل العقل من هذا القبيل كثيرة، قد ذكرها القرآن، وعدَّدَّ تبعاتها، تمامًا كما دعي إلى استخدام العقل بكل ملكاته ووظائفه، يمكننا أن نذكر أكبر هذه الموانع وأكثرها سيادة، وهي ثلاثة موانع تلعب دور الأصول التي تتشعب منها الموانع الأخرى، فمن سلم منها فقد تحرّر، وإلا فسيبقي أسيرًاً لها طيلة حياته.
المانع الأول: الآباء والأجداد
أكبر الموانع في سبيل العقل هي عبادة السلف أو العرف، والاقتداء الأعمى وراء رجال الدين، والخوف المهين من الرؤساء والمسؤولين.
والله لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده أو ليعبد السلف والخلف، ولايقبل منه أن يجتبي اتباع العقول، ويتورّع عن إعمال عقله خضوعًا للموروث والسلطة الدينية.
«حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا» هذه هي الإجابة التي اعتاد عليها أهل العمَى والضلال، وإن الإسلام ليأبى على المرء أن يحيل أعذاره لآبائه، وما تربي عليه.
هكذا مثّل القرآن هذه المواقف التي تحدث في كل عصر بين الذين يدعون لاستخدام العقل واتّباع القرآن، وأولئك الذين يتّبعون الموروث بغير هَدْي:
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»[البقرة: 170].
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ»[المائدة: 104].
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ»[لقمان: 21].
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا»[النساء: 61].
«إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ»[الصافات: 69 – 70 – 71].
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»[التوب: 23].
«بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ» [القيامة 14-15].
هكذا لا يقبل الله الأعذار إذا ألقاها الغافل؛ لأنه بصيرٌ على نفسه مسؤولٌ عنها وعن ذلّاتها وشهواتها، وليس الأجداد، فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون.
بل إنهم حتى لو فعلوا خطأً قالوا قد قال الله هذا، أمرنا الله بهذا! والحقيقة أن من أملى عليهم هذا هو تراثهم الفكري الذي ورثوه عن الآباء والأجداد، وليس الله؛ فالله لا يأمر بالفحشاء.
«وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» [الأعراف: 28].
وهنا يجب أن أشير إلى خطورة التكلم عن الله بغير علم، فيجب حين نتكلم عن الله أن نذكر الدليل، سواء كان هذا الدليل مستندًا إلى العقل المستقيم أو القرآن القويم أو السنة الصحيحة، حتى هذه الأفكار التي تصنفها على أنها بديهية.
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» [الشعراء: 69 – 74].
بالطبع لا أحتاج أن أقول إن الأصنام لا تكون دائمًا على الهيئة الفيزيقية، ذلك أني أتكلم مع شخص ناضج، أليس كذلك؟
«إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ» [الصافات 69-71].
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» [التوبة 23].
«وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ»[الزخرف: 23 – 24].
وبعد هذين الآيتين قال الله:
«فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»[الزخرف: 25].
وهذا يفسر لنا لماذا معظم البشر يعيشون في الدنيا كأنها نار جهنم؟ لأنهم يتبّعون ما وجدوا عليهم آباءهم واتّبعوه دون علم، ثم يرجعون فيسألوا لماذا الحياة صعبة؟ لماذا نُعذّب في الدنيا؟ وما الذي اقترفناه؟ ولو تدبروا القرآن لوجدوا الجواب، ولكن أكثرهم لا يعقلون.
المانع الثاني: رجال الدين
فاسدين كانوا أم لم يكونوا؛ فاتّباعهم بغير عقل لضلال لمبين، إن ذاك الذي يخنع لهذه القوة، ويرضي بتكميم فمه، وسدّ أذنه، وحجْرِ عقله، كثيرًا ما نراه بيننا، لا يستعمل عقله، ويكتفي بالاستماع لذوي السلطة الدينية.
لقد حذّر الدين من فساد الكهّان والأحبار وخطورة اتباعهم بغير تفكير، وقد بدأ الإسلام بالتحذير الشامل من هذا الفساد، فأسقط الكهانة، وأبطل سلطان رجال الدين علي الدين والمتدينين.
ثم نبّه إلى سيئاتهم وعاقبة الذين استسلموا لخديعتهم وشرور أفعالهم وكثير منهم ساء ما يعملون.
خطاب رجال الدين اليوم لا يثير غير المشاعر، خطاب «دوجماطيقي»، هشّ، غير قادر على إشباع حاجات الشباب الفكرية، والرد على أسئلتهم الدينية والوجودية. حتى أصبح خطابهم كخطاب السياسيين.
نحن نحتاج إلى إثارة العقل أكثر، وألا نكتفي ببضعة دمعات ورعشة يد.
«اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» [التوبة: 31].
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» [التوبة: 34].
«إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ» [البقرة: 166 – 167].
«اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ» [الأعراف: 3].
«قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [آل عمران: 95].
المانع الثالث: الاستضعاف في الأرض
ومتي يتخلص المسلم من قيود الموروث واتّباع السلف، حتى يجد الحاكم المستبد الذي يقيد تفكيره، ويكمم فمه، ويعقد لسانه، فلا يستطيع أن يفكر بحرية، أو أن يتحرر من فكر.
إن خطر الحكم المستبد يعلو على خطر اتباع السلف أو مخالفة الموروث – يجب أن أشير إلي أن اتباع السلف لا يعد خطأً في ذاته، وإنما يكمن الخطأ في اتباعهم بغير حجة أو بينة، وكذلك الموروث – ذلك أن هذين الأخيرين ينبعان من الداخل، أما الأول فيكون من الخارج.
فالإنسان يقدر علي تغيير الداخل بسهولة ويسر، لكنه لا يقدر على تغيير الخارج إلا بمشقة وتعب، على الأغلب، فهذه إذن مشكلة مكان أو زمان، لا مشكلة عقل وضمير.
وكان حقًا على المسلم مقاومته بحكم الإسلام كحقه في مقاومة الخنوع إلى الأجداد والعنو إلى الأسلاف.
«فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» [المائدة: 44].
ويلام المسلم على الخضوع في مكانه، إذا كان في وسعه مقاومة هذا الاستبداد، أو كان في وسعه أن يرحل منه إلى مكان بعيد.
(«ِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» [النساء: 97].
ولكن الله استثني «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا» [النساء: 98 – 99].
والإسلام حين يأبى على الإنسان أن يخضع بعقله لهذه الموانع، إنما يعطي العقل حقه في مقاومتها وذمِّها، ولا يكتفي بأن يفرض عليه واجب المقاومة، وإنما يمدّه بالأدلة التي تعينه عليها، فهو يحرِّضه علي الحرب ويضع في يده السلاح، ويحرّضه على الدين، ويضع في يده القرآن، ويحرّضه على التعقّل، ويجهزه بالحجج، أو بالعقل الذي يمدّه بالحجج.
ويجب أن أشير إلي أن هذا الدين الذي يأمرنا أن نواجه السلف والأحبار، ونثور على الاستبداد، يأمرنا أيضًا في وصاياه الكثيرة أن نوقر الآباء، وأن نرجع إلى أهل الذكر – إن كنا لا نعلم – وأن نطيع ولاة الأمر.
فالبر بالآباء لا يتيح الضلال معهم، وسؤال أهل الذكر لا يبيح اتباعهم بغير علم، وطاعة ولاة الأمور لا تسكتنا عن طغيانهم إن هم طغوا، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
عقولكم