يعتبر النظام العالمي الحالي المتمركز على بعض الدولة التي تتحكم في اقتصاد العالم، مستغلة بذلك القوة العسكرية والنفوذ الجغرافي والروزنامة من المؤسسات الدولية التي تخدم مصالحها، وتعطي لها الصلاحيات الكاملة في فرض قبضتها على باقي الدول المستضعفة. هذه الظروف والشروط الذاتية والموضوعية مكنت من فرض معادلة على المستوى العالمي، والتي يمكن اختزالها في أن الدول القوية ستظل قوية، وستزداد قوة، بينما الدولة الضعيفة سيزداد ضعفها، وبالتالي تزداد تبعيتها للدول القوية.

لاشك أن هناك بعض الدول استطاعت أن تتخلص من حجر التبعية للغرب، حيث يعتبر أهم رهان قامة هذه الدول على تجاوزه هو تحرير إرادة البلد، ومنه تحرير القرار السياسي داخل البلد الذي بدوره يعطي للبلد الحق في الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسات دون تدخل أي وصايات غربية.

يمكن اعتبار نجاح النموذج التركي في عدة مجالات تحت قيادة حزب العدالة والتنمية أمرًا أثار فضول الباحثين والمراكز الإعلامية، حيث لا ينكر أحد أن أردوغان كان ولم يزل رقمًا صعبًا في نجاح النموذج التركي، ليس على المستوى الإقليمي فقط، بل حتى على المستوى الدولي، وأيضًا ليس فقط على مستوى الآني، بل على المستوى الإستراتيجي.

إنقاذه لتركيا من ديونها الخارجية، إدخالها ضمن الدول العشرين ذات القوة الاقتصادية العالمية، سعيه لإدخال البلد ضمن الدول العشر ذات القوة العسكرية، نقله السريع للجو السياسي بتركيا من جو يسوده الاستبداد إلى فسحة الديمقراطية وحسمه في أن يكون للبلد قرار سيادي خاص به، ولا يتلقى التعليمات من دول أخرى… وغيرها من الإنجازات الجد مهمة جعلت منه هذا الرقم الصعب الذي سعت العديد من الدول لكي تتخلص منه تارة عن طريق الانقلابات، وتارة عن طريق تضييق الخناق على البلد اقتصاديًا عن طريق فرض العقوبات. وبالتالي فالتخلص من أردوغان أصبح مشروعًا كبيرًا من بين المشاريع الكبرى في الشرق الأوسط لبعض الدول التي تسعى لتركيع كل دول المنطقة، أو بمعنى آخر الهيمنة على ثرواتها وقرارتها، وبالتالي التحكم في مصيرها.

ينضاف إلى كل هذا الشعبية الكبيرة التي حصل عليها أردوغان في العالم العربي حيث أن خسارتة تعتبر محل ريبة وتخوف لدى الشعوب العربية التواقة إلى غد أفضل، والتي تتغنى وتتلذذ بأي زعيم يمثل نوعًا ما شيئًا من رغباتهم وهوياتهم التي طالما أرادوا شخصية كاريزما كأردوغان في حكامهم.

هذا التخوف له عدة دلالات وأسباب، أبرزها قد يكون نجاح الحزب اليسار بتركيا نقلة نوعية معاكسة للتوجه التي تسير عليه تركيا وفق خطة تراعي البعد الأيديولوجي للحزب وتراعي توجهات البلد التحررية من القيود الاستعمارية. بالإضافة إلى هذا يمكن التحدث عن الاختلاف الجذري والعميق مع الحزب ذي التوجه الإسلامي، اختلاف في المرجعية والأهداف والخطة الإستراتيجية وتاريخ الحزبين ونوعية الخطاب كل هذه الاختلافات الكبيرة ستنعكس بدون شك على مستقبل البلد. وبالتالي سيغير الكثير من قواعد اللعبة.

على مستوى العلاقات الخارجية، أبرز ما يمكن أن تؤول إليه سياسات تركيا، هو دخولها في علاقات خارجية غير الذي تسير عليه في هذه المرحلة. كما أن موقفها المساند لثورات الشعوب المطالبة بحقوقها بدوره سيتغير؛ لأنه سيتعارض مع توجه العلاقات التي سيقيمها. وبدون شك سيكون لهذه التغيرات انعكاسات داخلية على البلد، خصوصًا أنه ستظهر مقاومة إعلامية ومجتمعية وحقوقية حول هذا التغيير. قد يستغل اليسار حينها موقف المتحالفين الجدد الذي سيفتحون له كل الخطوط الحمراء للقيام بأي أمر يراه لطفي جمرة مناسبًا، مستغلًا بذلك الظروف الإقليمية.

أما في ما يتعلق بأسلوب تعامله مع الحزب، فسيصبح الحزب الحاكم حينها وهو يمتلك كل الوسائل مهاجمة الحزب الإسلامي بغية إضعافه، وسيخوض معه معركة ذكية تتمثل في أنه سيرفع كل أنصار حزبه ويرقيهم في المسؤوليات والمهام؛ مما سيفتح نافذة للبلد وهي العودة إلى الدولة العميقة ناهيك عن الدور الذي ستلعبه المؤسسات الإعلامية الخاضعة لسيطرة الحزب، والذي يتمثل في إعادة إرجاع العلمانية الإقصائية بشكلها القديم، ولضمان هذا السير لابد له عن تحالف داخلي وخارجي، على المستوى الداخلي فسوف يسعى للتحصن بالعسكر، باعتبار أن الشعب لن يقبل بهذه التغييرات، وأيضًا فإن الأحزاب لا يمكنها أن تتحمل تبعات هذه التغييرات، ما عدا الأحزاب التي ستقوم بمقايضات إستراتيجية.

في المقابل فإن الدول الغربية لن تقبل بتقديم الضوء الأخضر للحزب حينها إلا بضمانات تتأكد أن البلد سيظل تحت قبضتها ومصيرها، وسيكون خلالها رضوخ للاقتراض من تلك الدول ومن مؤسساتها أيضًا سيطر النظام التركي خلالها إلى إمضاء اتفاقات يقايض خلالها الحزب الحاكم ببقائه من أجل التنازل عن عدة ملفات والدخول في صفقات مع تلك الدول، كل هذا فقط من أجل تكبيل مصير البلد.

لعل السمة البارزة التي ستكون في تلك المرحلة هي الانتقام الحاذ من حزب أردوغان والقضاء بشكل نهائي على كل آثار أو طموح لإعادة الدولة العثمانية العظيمة ومن بعدها إعادة غرس العلمانية الأتاتوركية بشكلها الإقصائي تم الانتقال إلى كسر مقاومة البلد للقرارات التي ستفرض عليها. وبطبيعة الحال لن يقبل العالم، أو تلك التحالفات، أن يروا تركيا إلا وهي مجرورة، وتابعة مثل باقي الدول العربية.

يمكن القول إن عدم وجود استقرار أيديولوجي هو المحفز الأكبر لهذا التوجه، وبالتالي فالمراهن عليه خلال هذه المرحلة أن يضع الحزب نصب أعينهم مهمة تقوية المؤسسات بالشكل الذي يضمن استقلاليتها وديمقراطيتها. أيضًا هدف آخر يجب أن يتم إفراغ الجهد فيه هو المؤسسة القضائية بحيث يعتبر الرهان على هذه المؤسسة رهانًا إستراتيجيًا، أيضًا لابد على الحزب من إعادة تقييم عمله المؤسساتي وتقييم مدى تأثيره داخل المجتمع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد