العسكردائما يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية، حتى يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبق شيء عظيم أو جيد لم يفعلوه، إن من آصل وأرسخ وأشهر مواهبهم أن يعتقدوا أنهم قد فعلوا الشيء لأنهم قد تحدثوا عنه، فهذا مشروع قناه السويس، قد استطاع أن يجني تكاليفه في بضعه أيام فترى الاحتفاء والتهليل للقائد العسكري الملهم الذي أمر بالبدء في ذلك المشروع ثم تنظر إلى نتائج المؤتمر الاقتصادي الذي تم أيضًا برعاية نفس الطغمة العسكرية الحاكمة فتجد أنه مجرد شو إعلامي لأبطال من ورق.
أبطال لم يطلقوا طلقة واحدة على عدونا بل أداروا كل فوهات المدافع إلى صدورنا عندما صرخنا من ألم الذل والقهر والعبودية، لنجد أن تلك المدافع لا تطلق نيرانها إلا في صدور أبناء هذا البلد إن تجرأوا وقرروا أن يطالبوا ببعض من الحرية.
لقد طغى العسكر على البلاد والعباد وخططوا ودبروا لكي يسرقوا من عقل المواطن المصري وظيفته فاعتاد ذلك العقل أن يأخذ الأشياء قضية مسلمة وألا ينظر أو يفكر أو يبحث أو يشك، بل اعتاد أن يأخذها أخذ تسليم بدون فهم وبدون رغبة في الفهم وبدون أن يرى ذلك مطلوبًا، فأصبح من أخلاقه التي تكاد تكون طبيعية أن يصدق كل شيء و/أو يقبل كل شيء وألا يحاول فهم شيء وصار التصديق وتبلد الحاسة العقلية من الصفات المميزة له والمسيطرة عليه، فبالتصديق آمن بكل الخرافات التي يلقنها بدون عناء حتى صار أعجوبة في استسلامه المخجل لكل بطولة زائفة وكل شطحة خيالية من زعيم من ورق.
لقد تبلدت الحاسة العقلية عند المواطن المصري وقف دون الأشياء ودون النفوذ فيها ودون فهمها بل ودون الرغبة في فهمها، حتى عد الشك فيما يقوله الضابط ذو البزة العسكرية من خصال الخائنين والممولين، بل تعدى ذلك إلى اعتبار المشكك من الكافرين والملحدين والمارقين واعتبر سرعة التصديق وسهولته والوقوف أمام الأشياء ببلاهة وبلادة كوقوف الأصنام أمام عابديها، اعتبرها من علامات الوطنية والاخلاص والوفاء للبطولات الزائفة لذلك الجيش الذي أنقذه من يد الإخوان المفسدين.
لقد غيب العسكر عقول المصريين بالجهل على مدار عقود حكمهم لهذه البلاد، وغيبوا أجسامهم بالقتل والاختفاء القسري لمن يفتح فمه ويعترض على الظلم، أو بالمرض بمبيدات مسرطنة، ومياه غير صالحة للاستهلاك الآدمي، لقد طبق المصريون عبر عقود فكرًا أقرب إلى فكر العبيد منه إلى فكر الأحرار، لقد رفعو شعارًا، «إذا كنت قويًّا هابك الناس ولعنوك وإذا كنت ضعيفًا احتقروك، قاصدين أن يذلوك وأن يعلنوا عن ضعفك وعن الشماتة بك وعن تفوقهم عليك، وقاصدين أيضًا أن يدافعوا عن ضعفهم بضعفك. إن ضعفك وضآلتك يتحولان إلى كرم وإلى تمجيد للعسكر ومن يحمل بيده الكرباج. أما إذا كنت فاضلًا أو تقيًّا أو نظيفًا فقط فإنهم لن يهابوك ولن يحمدوك وأيضًا لن يحبوك» انا أخجل من خوف المصريين من مواجهة جلاديهم، اخجل من كونهم ادمنوا التصفيق للقوى،اخجل من كونهم راضون بمجرد، كونهم احياء يعملون يأكلون يتناسلون فقط !!! ماذا يربح اي انسان من مثل هذه الحياة ؟ إن الحياة الحقيقية هي أن تكون حرًّا تملك إرادتك،عندما تبدي رأيًا تجد من يحترمه ويقدره حتى ولو كان رأيا سخيفا لا يحمل قيمة أو وزنا.
ففي النهاية أنت مواطن مصري لك حقوق وواجبات تنازلت عنها بمحض إرادتك لعسكري غشوم جهول، قرر أن يجعل منك كائنا يجيد التصفيق لا التفكير، يجيد الثناء والحمد لا الهجاء والنقد، لقد علم العسكر الشعب المصري أن يكره من يواجه الظلم، علمهم أن يكرة الثوار والثورة لأنهما خطر على وجود العسكر، فيستخدم إعلامه ليجعل ممن خدعهم وغيبهم من الشعب المصري يواجهون أحرار هذا الوطن الذين رفضوا أن يعيشوا تحت ظل الطغاة، هؤلاء الطغاة يعلمون أن الثوار لا يمكن أن يصنعوا وحدهم الحرية، لكنهم نسوا وتناسوا أن الحرية تحفر طريقها بلا تشريع بلا ثورة كما يحفر النهر مجراه، بمواصلة السير في جوف الصخور والتراب، بمقاومته للطبيعة.
إن الحرية لا توجد بالإرادة، أو الخطة، أو لأمر، إن الحرية توجد بالتعامل مع الأشياء الصعبة، والمتناقضة والمضادة، إن الحرية هي التعود على السير في طريق مسدودٍ بالمتناقضات والأحزان.
إننا نتعلم الحرية كما يتعلم الأعمى السير بين حقول المهالك مبصرًا بعصاه، وقريبا سيولد جيل من رحم المغيبين يرفض أفكارهم ويلعن الطغاة في كل وقت يحب عبق الحرية، ولا يستطيع العيش إلا بنسيمها.
جيل يهجو الطاغية ويثني على الحرية والمدنية والثورة، إن الطريق طويل وبناء جيل حر شاق وصعب، ولكنها ضريبة يدفعها الأحرار الآن في السجون والمعتقلات، وتروى بذرتها بدماء زكية أريقت ليتعلم أبناء هذا الوطن أننا حاربنا من أجل حريتهم ليس بالسلاح ولكن بكلمة حق في وجه عسكر لا يعرفون إلا لغة الدم والسلاح وإننا واجهناه بالكلمة وإن الكلمة لو كانت من أجل الحق فهي أقوى من كل أسلحة العالم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست