لماذا نكتب؟
لمحاربة الموت، لترك الأثر، للتعبير عن أحزاننا دون أن تصيبنا شفقة الآخرين. من الممكن تقبل إجابة كهذه الإجابات، ولكن، لأني أحب الكتابة أفضل كتابة مقالتي هذه كاملة عن السبب.
بالنسبة لي، فأنا أكتب لأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة لتفادي ألم الوحدة والعُزلة، كي أهرب من نفسي، أو أواجهها، كي لا أموت بمجرد أن يموت جسدي الهزيل، وكي أترك الأسئلة التي لا أجد إجابة لها، لعل يأتي من بعدي من يجيبني عن أسئلتي الفلسفية التافهة أو المهمة.
فكرة كتابة هذا المقال، نابعة من السؤال الذي سألته لنفسي وأنا أقرأ رواية «دايدالوس» للكاتب المصري «عمرو جنيد»، عمل عدد صفحاته «156» صفحة، عمل جيد، كُتب بشاعرية، عمل مركب، محاط بتفاصيل حياة كاتب ورث الصنعة عن والده الذي ورثها عن والده، وفي تسلسل زمني غير مترابط يخبرنا عمرو جنيد عن الكتابة، كمهنة وحرفة، وعنها كموهبة قد تحرق الروح نفسها من أجل إيجاد وصف دقيق للألم أو لرائحة النيران.
اقتباسات من العمل:-
«البحث عن النهايات الحاسمة عزاء من فقدوا الرقص الوثاب علی أطراف البدايات، من سقط من جعبتهم طوال المسير أمانيهم وتعلقهم الطفولي بأبطال يتساقطون واحدًا تلو الآخر».
«إن كل النهايات طبيعية وطبيعة الأشياء هي الحزن والخذلان والفراق، لا شيء يبقی».
«نحن لا نتذكر الأشخاص بوجوههم المجردة، بل نتذكر ما ينغرس فينا ونتشبع به».
«التطور البشري ما هو إلا انحدار».
نحن نكتب لأن ما لا نعرفه أكثر بكثير جدًا مما نعرفه، ولأن العلاقة الوطيدة التي تتكون بين أي شخص وورقة وقلم علاقة غواية أكثر منها هواية، علاقة تشبه أحيانًا علاقات العشق الصافي، وفي أوقات أخری تشبه الوقوع في شباك امرأة لعوب، لذلك فإن الارتباط التي يحدث بين المرء وفعل الكتابة ليس سهلًا في مضمونه، ولا كل تفاصيله مليئة بالنشوة أو لحظات الإنجاز، بل إنها في أغلب أوقاتها مليئة بالكدر والغم، ومحاولات دؤوبة في كثير من الأحيان لا تفلح في إيجاد لفظة واحدة للتعبير عما نود قوله.
«العالم هو الخذلان المتراكم المتوارث فينا، نحن صنيعة تاريخنا منذ بدأ الإنسان في التذمر من كل شيء». من رواية «دايدالوس».
لأن الحزن بحر واسع يمكنه احتواء مئات التعريفات دون أن يشكو قسوتها، ولأن الإنسان الذي عاش ويعيش وسيعيش علی هذه الأرض لسنوات مديدة قد يُصاب بالملل، ولأن الإنسان أراد أن يوثق ما مر به من صعاب ولحظات مجيدة كي يخبر من سيأتون بعده بأنه كان هنا قبلهم، ولأنه اضطر لاختراع الرمزية كي يفلت من البطش، واضطر لأن يشير إلى الأشياء علی أنها ليست هي لخلق صورة جمالية، من أجل كل هذا كتب الناس، ووثقوا حكايتهم، وخرجوا عن تصنيف الناس العادية وأصبحوا أشخاصًا فريدين من نوعهم لأنهم يصفون الحياة، ويتحدثون عنها، ويعيشون فيها، ويخرجون من نمطيتها في صور أبطال أعمالهم الأدبية.
«التطور ليس تطورًا نوعيًّا، بل تطورًا رهابيًا يبتلع كل شيء داخل ثقب الخوف المبهم الأسود من البدائية قبل زمن الحضارة حتى الخوف من الخوف نفسه، الخوف من العناكب والثعابين والمرتفعات ومن الأماكن المزدحمة والخالية والمغلقة والمفتوحة، والخوف من الأضداد، والخوف من المتشابهات، والخوف من الكلاب والرعد والبرق، ومن الطائرات، ومن المرض، ومن المرضى، والخوف من التحدث مع الغرباء والأقربين، والتحدث أمام جمهور والخوف من الوحدة، والخوف من الرفقة، والخوف من الفشل والنجاح، والخوف من الحقن والناس والدم والظلام والحب والحشرات، والخوف من المراقبة، والأعضاء الجنسية وممارسة الجنس، والاجتماعات، ورهاب المرايا، والمشي والوقوف والنوم والشمس، والشعر المفرود، وإفرازات الجسم، واللمس، والخوف من الثلاجة والأدوات المنزلية، والخوف من تغير العادات، ورهاب الغابات، والخوف من اتخاذ القرارات، والماء، ونزول السلم أو صعوده، وابتلاع الطعام، والخوف من شر غير محدد المعالم ورهاب المستقبل، والخوف من الفناء». من رواية «دايدالوس»
لأننا نخاف أن ننسی، وألا نترك أثرًا، ولأن الإنسان ضعيف ويبكي حينما يأتي في باله أن بمجرد موته لن يذكره أحد، من أجل كل هذا غالبًا نكتب، ولأن الحكايات تدوم لزمن طويل، لذلك نجد أن رواية مثل رواية «دايدالوس» تعيش ونتذكرها لزمن، لأنها تحكي عن التشابك، وعما يربطنا بأهلنا، وما يربطنا بذاتنا، وعن حكايتنا في الطفولة، وعن ما يشبهها بقصص قد تشبه قصص الإغريق؛ لأن الكتابة قد تنجي صاحبها، ولأنني أحب الكتابة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست