ولكن رغم كل ذلك إلا أنني أرى أنه من أحق الحقوق أن توضع الأمور في نصابها، وأن يجري الحق مجراه، فالتاريخ لا يرحم، وانطلاقًا من تلك المسؤولية العظيمة التي تقع على كاهلي باعتباره كاتبًا استرعاه الله قلمًا أن يؤدي حقه بأحسن مما يكون، فكانت تلك السطور التي أحسبها ولا أزكي نفسي عتبة من عتبات النقد البناء الذي لا مجاملة فيه لكاتب ولا مداهنة لفكر ولا تزكية لضال، فإن أخطأت فيما أكتب فمن نفسي وإن أصبت فمن الله، وسوف يأتي الكثيرون من بعدي بأقلامهم بين مؤيد ومعارض، إلا أنّ الحق يبقى حقًّا مهمَّا كثرت حوله الأقاويل، والصواب يبقى صوابًا مهما شاع الخطأ.
قد يسأل سائل لماذا غرق الحضارات؟ ولم أمين المعلوف بالذات؟ وأجيبه بأننا نعيش في لحظات تاريخية فارقة في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية التي تصارع فيها سباع الأرض من كل مكان لأجل الحياة الكريمة لا أكثر، ورغم ذلك لم يتركوها وشأنها، فضلا عن الشتات والفرقة الداخلية والضعف والوهن الذي تعيشه في شتى المجالات، فمنذ اشتعال ثورات الربيع العربي بتونس عام 2011 وانتشاره في جل بلدان العرب التي تطمح للحرية والعيش الكريم والكرامة والنهضة، كثرت عليها السكاكين واجتمع عليها سباع الأرض ومنحطوها من كل حدب وصوب كي ينهشوا من لحمها أكثر ويزيدوا من أوجاعها وجعا كي لا ترى النور من جديد.
ولعل من أوجب الواجبات في هذه اللحظات التاريخية العصيبة أن يقف جميع أبناء هذه الأمة بمختلف دياناتهم وأعراقهم صفا واحدا للدفاع عنها وتوحيد مشروعها فضلا عن صفها، لا أن يكونوا معول هدم بيد أعدائها عن عمد أو بغفلة منهم لقصر نظر في رؤيتهم للواقع الذي يعيشون فيه أو يشاهدونه من خلف الشاشات،ولم لا وهم أبناء أمة واحدة وثقافة واحدة ولغة واحدة، فلا توجد حضارة في التاريخ وحدت بين أعراقها المختلفة في الثقافة واللغة والهوية إلا الحضارة العربية الإسلامية.
بيدَ أنّ تناول أمين المعلوف لهذه المرحلة الخطيرة في كتابه (غرق الحضارات) كان تناولًا غير دقيق ومجافيًا للحقيقة، ولعل حياته في فرنسا التي يحمل جنسيتها بعيدًا عما يحدث في منطقتنا جعله يتأثر بدعايات الغرب الكاذبة في تناوله للربيع العربي والحقائق التاريخية المزيفة التي أوردها في كتابه، وما هي إلا دعايات للإعلام الغربي الكاره لكل ما هو عربي وإسلامي، فمن هو أمين المعلوف؟ ولماذا غرق في بحر الحضارات؟
أمين رشدي المعلوف هو كتاب لبناني مسيحي ينتمي للطائفة المارونية، ولد في قرية عين القبو بلبنان عام 1949، ولعلها من المفارقات العجيبة التي أشار لها بنفسه في كتابه غرق الحضارات بأنه نفس العام الذي استشهد فيه الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
التحق الكاتب أمين المعلوف منذ صغره بالتعليم الديني مستشهدًا على ذلك بأن والدته أصرت على إلحاقه به، فالتحق بمدرسة (سيدة الجمهور) وهي مدرسة فرنسية كاثوليكية، ثم التحق كبيرًا بجامعة القديس يوسف الفرانكوفونية ببيروت، وقد كان لهذا التعليم ذي التوجه الديني المرتبط بالكنسية والسياسة الفرنسية منذ الصغر تأثير عظيم عليه في حياته وكتاباته سواء بسواء، وقد اتضح ذلك جليًا في غرق الحضارات وهو ما سنوضحه في الأسطر التالية.
ولكي يدرك القارئ الصورة ولو بشكل عام عن الكتاب أود أن أشير إلى أهم ما ورد فيه وهو كالتالي:
يحتوي الكتاب على أربعة فصول مرتبة ومعنونة بــ: (فردوس يحترق، شعوب تائهة، سنة الانقلاب الكبير، عالم متفكك) فضلًا عن المقدمة والخاتمة، وقد جاء الكتاب في حوالي 319 صفحة.
اعتمد المعلوف في كتابه غرق الحضارات على الدمج بين تقنية السرد الروائي مع الكتابة الصحفية ببراعة منقطعة النظير، حيث انطلق بمهارة شديدة من المأساة التي لاقاها أهله مطلع القرن التاسع عشر وتحديدًا بعيد ثورة الضباط الأحرار في مصر وانتهاء حكم الملكية، إيذانًا برحيلهم عن كوكب الشرق مصر، بائعين أملاكهم وتجارتهم فيها بأبخس الأثمان، ومنها خطَّ المعلوف مأساة أمة بأكملها، بل العالم أجمع، حيث اعتبر المعلوف أنّ اليأس العربي وأفول نجمهم بدأ مع الهزيمة النكراء للعرب عام 1967 على يد الصهاينة، وكان أعظم انقلاب في تاريخ البشرية من وجهة نظره عام 1979 والذي أتى بالخميني في إيران ومارغريت تاتشر في بريطانيا.
ولا اختلف مع المعلوف عن التأثير العظيم في المنطقة العربية والعالم أجمع بما أشار إليه من تواريخ سابقة، وإن كنت أرى أن بداية الدمار كانت مع اللحظة في سقوط الخلافة العثمانية 1924 والتي لم يجتمع بعدها العرب والمسلمون إلا على الاختلاف والتناحر والفرقة، بل سقط العالم بيد قيادة لا إنسانية ولا حضارية أدت سياساتها إلى الكوارث التي يحياها البشر الآن.
أبدع المعلوف في استخدام أنماط الكتابة مثيرًا بداخلي أمواجًا عاتية من التأمل والذهول عندما استخدم النثر الجدلي التفسيري الذي يزلزل عقل القارئ بالتساؤلات التي تحتاج لأجوبة، ولم يهمل في ذات الوقت النثر الوصفي للأحداث، بالصوت الداخلي للسرد الذي يقوم فيه الأديب بدور الراوي لكل حرف يكتبه أو بالإشارة إلى غيره إذا لم يكن حاضرًا فيها.
وأقتبس بعض كلماته التي يؤكد فيها ما ذكرت بصفحة 317: «خلال سنوات حياتي السبعين، قُدر لي أن أشهد تعاقبا لا ينتهي من الأحداث عن قرب أو بعد، وإنني أعانقها اليوم بنظرتي وكأنها جزء من لوحة جدارية واحدة».
لا شك أن المعلوف قد يجبر الكثير من النقاد والكُتّاب على التوقف كثيرًا أمام كتاباته الفذة، ولا تغني مقالتي هذه ولا تسمن من جوع عن الكم والكيف الهائل للمعلومات التي وردت في الكتاب أو قيمتها، ولكنها من قبيل لفت الانتباه ووضع الخطوط العريضة تحت أهم وجدت، ودق جرس الإنذار لمن يكتبون عن أمتنا وحضارتها وحاضرها الشائك وواقعها المرير بألا يقعوا فريسة لدعايات الغرب الكاذبة ويطعنوا أمتنا بها من حيث لا يعلمون، ورغم ما ذكرته من براعة الكاتب في أسلوب الكتابة وأنماطها والتقنيات المستخدمة فيها إلا أنني آثرت أن أشير إلى خصائص الكتاب بشكل عام والتي استنبطتها من قرائتي للكتاب أكثر من مرة ولخصتها في عدة نقاط كإيجابيات تحسب وسلبيات عليه.
فأما عن مظاهر الروعة في غرق الحضارات هو أنه كتاب (واقعي: يبين التحول السريع للدمار الذي حل بالعالم نشوة الحضارة التي يعيشها) و(منطقي: يظهر التأثير الخطير للشرق العربي على مستقبل العالم وتحديد هويته وبخرابه لا يستقر للعالم نجم)، فضلا عن البعد الفلسفي الذي أظهره الكتاب من خلال الصراع الداخلي في نفس الكاتب بين الشرق الذي خرج من رحم حضارته وبين الغرب افتتن بقشور حضارته ويحمل جنسيته بالتبني.
لقد امتلأ الكتاب رغم كل ما ذكرت بسلبيات وسقطات لا يمكن لقارئ متبدئ أن يتجاوزها فضلًا عن كاتب أو ناقد، وكان أسوأ ما وجدت فيه كالتالي:
الطابع الديني ذو البعد اللاهوتي
حيث عجّ الكتاب بالأشعار الدينية اللاهوتية في صفحات مختلفة من الكتاب وكان أبرزها على سبيل المثال لا الحصر في المقدمة، حيث أورد أبياتًا للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس يقول فيها: وحدها الآلهة تعرف ما يخبئه الغد. وحدها تملك الأنوار، وفي مطلع الفصل الأول صفحة 21 أورد نصًا من أرض اليباب، ليس هذا فحسب لكنه أكثر من ذكر طائفته المارونية في مواضع لا تحصى من الكتاب بزعم ما تعرضت له من ظلم، فضلًا عن غيرها من الطوائف الدينية المسيحية كالأرمن.
تزوير فج لحقائق تاريخية
ولا أعرف ما هو غرض الكاتب الحقيقي من ذلك إلا لأمرين، إما أنه وقع فريسة لدعايات غربية كاذبة، أو لانتمائه الفكري العلماني ودفاعه المستميت عنه بشتى الطرق حتى وإن كان بتحريف التاريخ، وإما لسبب ثالث وأحسبه ضعيفًا وهو عدم إلمامه بالتاريخ باعتباره أديبًا، ولا أرجح هذا الأمر، فمثل أمين المعلوف لا يقع في ذلك.
لقد جمعت سبعة أحداث تاريخية هامة في تاريخ أمتنا قام المعلوف بتحريفها وإيراد روايات لا يرددها إلا الغرب لتشويه صورة العرب والمسلمين، وكان أبرزها كالتالي:
-حقيقة اغتيال الشيخ حسن البنا رحمه الله 1949 صفحة 24.
-إلصاق تفجير برج التجارة العالمي بالمسلمين عام 2001 صفحة 25.
-إلصاق دعايات فرنسا ضد الخلافة العثمانية بأنها قامت بمجازر ضد الأرمن صفحة 27.
-تحريف حقيقة تأميم شركة قناة السويس العالمية على يد الطاغية عبدالناصر، محاولة من الكاتب لإبراز صورة الطاغية كزعيم صفحة 41، وهو ما تأمم فقط هو مجرى القناة، وليست الشركة العالمية، فلا تزال قائمة في فرنسا باستثماراتها التي بلغت عام 2015 قرابة 104 مليار دولار.
-تزويره لشعاره الثورة السورية صفحة 90 بأنها كانت: «على الجنة رايحين شهداء بالملايين» والحقيقة أنها كانت: «يسقط النظام» وقد رآها وسمعها العالم أجمع.
-إشارته لتدليس الطاغية عبدالناصر على مرشد الإخوان حسن الهضيبي في قضية الحجاب صفحة 105، وهو ما نفاه مرشد الإخوان نفسه في مجلة المسلمون الشهرية عدد ربيع الآخر 1952-1372هـ.
عنصريته تجاه كل ما يضاد العلمانية وخاصة ضد العرب والمسلمين
فقد أشاد المعلوف بالطغاة والماركسية وبالعلمانية وبكل ما سوى العرب والمسلمين، إلا عندما يتوقف عندهم يظهرهم بمظهر المجرم الذي خرب العالم ودمره بعقيدته وفكره فقط لوقوف في وجه فساد الغرب ومؤامراته.
وقد أحصيت له عدة مواضع كثيرة يظهر فيها عنصريته البغيضة تجاه الحضارة التي خرج هو نفسه من رحمها كما في صفحات: (75،82،88،102،121) وأخذ منهم مثالا واحدا حيث يقول صفحة 88: «إن انعدام الثقة هذا يثير الضحك والحنق، ولكنه يبدو في ذاته حميدًا لدى مقارنته بما يصدر عن العالم العربي منذ بضع سنوات أي تلك الكراهية العميقة للذات وللآخرين، المصحوبة بتمجيد للموت وسلوكيات انتحارية».
وإني لأتساءل سؤالًا في غاية الأهمية؟ لماذا أطلق المعلوف على كتابه «غرق الحضارات» مستخدمًا أسلوب التعميم؟ فالكل يدرك أن الحضارة الحاكمة للعالم الآن هي الحضارة الغربية؟ التي تعتمد على الرأسمالية اقتصاديا والعلمانية فكريا؟! لماذا لم يجرؤ أن يحددها بالاسم؟ مستخدمًا التلبيس على القارئ والإيهام بأن العرب والمسلمين يحملون الوزر الأكبر من ذلك الدمار؟ فمن يحكم العالم هو من يتحمل المسؤولية الكبرى للفشل. فهو من ينظم السياسات ويضع قواعد اللعبة، ولماذا لم يجرؤ المعلوف على الإشارة إلى تطبيعه مع الكيان الصهيوني بظهوره على التلفزيون الإسرائيلي مخالفًا بذلك جمهور الأمة والعالم؟ ولماذا لم يجرؤ على إظهار الوجه الخبيث لفرنسا والتي يحمل جنسيتها في استعباد الشعوب القرن الماضي ودورها في محاربة الإسلام والمسلمين الآن، والتي طالما أشار إليها في كتابه؟! أسئلة كثير قد تنسف بسفينة المعلوف المتهالكة وتهوي بها في بحر الحضارات الذي أغرقنا فيه بزعم الإنقاذ!
وفي الختام، أقولها بكل صراحة وبلا مواربة، إن لم يكن الأديب معبرًا عن قضايا أمته وحاملًا مشعل النهضة والتنوير فيها، ومدافعًا عن قضاياها، فلا خير فيه ولا نفع من وراء ما يكتب سوى السعي لمكاسب شخصية ومنافع دنيوية لا قيمة لها إن قيست بحياة الأمم والشعوب وآثارها، أو قورنت بالعظماء الذين غيروا التاريخ بالزود عن الحق والبحث عن الحقيقة وصناعة المجد الذي يعتمد العدالة والعلم النفع أولا وآخرا. فإلى كل من يحمل قلمًا أو سلاحًا أو يقف على ثغر من ثغور هذه الأمة، احذر أن تكون الطعنة من خلالك والخيانة من قبلك أو أن تكون مطية دون أن تشعر للمتكالبين علينا، فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، والحساب قادم طال الزمان أم قصر، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست