لم يكتفِ المفكر الدكتور إسماعيل الفاروقي في مؤلفاته ـ التي تناولت الفنَّ من منظورٍ إسلاميٍّ ـ باعتبار القرآن الكريم هو المصدر الأول للجمال الإسلاميِّ فحسب، بل عدَّ القرآن الكريم أوَّل عملٍ فنيٍّ إسلاميٍّ كان ولا يزال يملك التأثير الأكبر على كل مسلم، فلم يترك القرآنُ مسلمًا حقيقيًا إلَّا وهزَّه من داخله، وانطبعت أعراف القرآن ومعايير جماله في وجدانه، وأعاد تشكيل المسلمين على منواله، حتى أصبح القرآن الكريم القدوة والمثال لجميع ما ظهر من تجليات الفنون الإسلامية، ويمكنني أن أحيلك إلى كتاب «التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة» ص 297، وإلى كتاب «التوحيد والفن» ص 186؛ لتتعرف طبيعة الدور الذي قام به الإسلام في ترسيخ مفهوم الفنٍّ بدايةً من الخط العربيِّ مرورًا بكل ما استجدَّ من صنوفٍ وأنواع.

ليست رحلةً فرديَّةً

بالطبع لم يكن المقصودُ أبدًا من طرح التساؤل الأبرز في الحلقة الأولى عن سبب تراجع الإسلاميين عن تقديم الفن هو الحصر أو التقييد، إذ كانت نيَّة كاتب هذه السطور تسليط الضوء ـ بقدر المساحة التي يملكها للكتابة في هذا الموقع ـ على ظاهرة الفن عند الإسلاميين، وكذلك لم أقصدْ أبدًا أنَّ أحدًا لم يتناول هذا الموضوع من قريبٍ أو بعيد قدر ما كنت أنوي استغلال هذه المساحة المخصصة لي في طرح ما أراه عاملًا هامًّا من عوامل الصراع الأيديولوجيِّ، لذلك سيظلُّ القارئ والمتابع شريكي في هذه الرحلة، يجدد لي وأتلقى منه حتى نصل إلى سرد أكبر عددٍ ممكن من الأسباب والعوارض التي أدَّت إلى هذا المشهد الذي نراه اليوم.

 لماذا لا يقدِّمُ الإسلاميون فنًّا؟

تواصل معي عبر الأسبوعين الماضيين عددٌ من الأصدقاء والقراء الأكارم لطرح ما يرونه أسبابًا رئيسةً مسؤولةً عن ظاهرة الإسلاميين والفن، ولأنَّ القارئ من حقِّه أن يظهر على مربِّع هذه النافذة الإلكترونيَّة، ولأنَّ آراء الجميع عندي محلَّ تقديرٍ واحترامٍ، فقد حوَّلتُ مسار الجزء الثاني من المقالة لأستكمل به بقيَّة الأسباب التي جاءت كالتالي:

  • رأى الصديق والروائيُّ المصريُّ ماجد القاضي أنَّ أصل المشكلة فيما ترسَّخ في أذهان شريحة كبيرةٍ من جمهور الإسلاميين عن قلَّة أهمية الفن في الصراع، لذا فلا عجب أن ترى كبار المتبرعين «مُموِّلي التيار الإسلاميِّ» ينفقون الملايين في عملٍ خيريٍّ «مدرسةٍ أو مستشفى»، لكنهم أنفسهم غير مستعدين لإنفاق رُبع هذه المبالغ في إنتاج فيلمٍ عملاقٍ روائيٍّ بإمكاناتٍ هُوليووديةٍ يناقشُ فكرةً عصريَّة!
    «وهنا أتساءلُ: ومَن المسؤولُ عن تشكيلِ وعيِ هذا القطاع العريضِ من جمهور الإسلاميين حتى يقع في تلك الفاجعةِ؟ وهل اقتصر دورُ مسؤولي التربية في قطاعات التنظيمات الإسلامية المختلفة على تلقين أبنائها فقط قواعد العمل الدعويِّ وأدبيات الإخلاص والتجرد؟ ثم دعني أسألْ مسؤولي التسويق لدى هذه الحركات الإسلامية عن دورها في التواصل مع كبار الممولين، وما الذي يقدمونه حقًّا لكبار الممولين؛ ليحصلوا على دعمٍ فنِّيٍّ مناسب؟ ثمَّ إنَّ العادة قد جرت على أن يكون الممولين من رحم هذه الحركات، فمن المسؤول عن غياب تثقيفهم وتبصيرهم بالدور التوعوي للفن في العالم؟».
  • كذلك جاء انشغالُ أبناءِ التيَّارِ الإسلاميِّ أنفسِهم بالهمِّ الدعويِّ والصراعات السياسيةِ ليحتلَّ مكانةً متقدمةً في أسباب الأزمة، فأين سيجدُ الشابُّ وقتًا لينميَّ دور الفن الإسلاميِّ؟
    «وهنا أقول: حسنًا، ومن المسؤول عن سوء توزيع القطاعات البشرية داخل هذه الحركات السياسية والإسلاميَّة؟ وما الذي منع قادة الحركات الإسلامية من تنظيم صفوفها واكتشاف مواهب أبنائها في شتى المجالات؛ لتستطيع الاستفادة منهم وتسويقهم في صراعاتها الحزبية والسياسية؟ ألا يدلُّ ذلك على فقر خيال قادة هذه الحركات وعدم وعيها بما يستجدُّ حولها من متغيرات؟ ثم إنْ كان ربُّ البيت هكذا، فما الذي تنتظرُه من أهل البيت؟».
  • خوفُ رعاة الفنِّ منك كصاحب تجربةٍ أيديولوجية ـ مهما حاولت التملَّص من ذلك ـ دفع الوسط الفنيَّ إلى رفض التعامل معك.
    «حسنًا، أخبرني عن الخطوات الفعليَّة التي قدمتها أنت باعتبارك صاحب مشروع تنمويٍّ تعميريٍّ حتى تستطيع تغيير وجهة نظرهم فيك، ومنذُ متى تتغيَّرُ قواعدُ اللعبة في عامٍ أو عامين حتى تتعجَّل حصد ما لم تزرعه أصلًا؟ ثم هل وعى القائمون على الحركات الفنية الإسلامية طبيعة السُوق وسبل التعامل معه وتدرج الوصول لأهدافهم عبر خطةٍ ممهنجةٍ ومرتبَّة؟».
  •  تعد البيئةُ المسيطرِةُ على هذا العالم ـ والتي تهتمُّ بالعرضِ والترويج بشكل رئيسيٍّ لأكبر جمهورٍ ممكن ـ بيئةٌ غير نظيفة، لذلك كان من الصعوبة بمكان أنْ يقوم فنُّك الإسلاميُّ باختراقها، اللهم إلَّا بتنازلاتٍ معينةٍ لن تستطيع تقديمها، ولو استطعت بالفرض تقديمها، فأنت بذلك قد فقدتَ طابعك، وخرجت أصلًا من المٌعادلة التي نحاولُ حلَّها.

«حسنًا ، ما رأيك في التجارب المختلفة التي قدَّمها رموزٌ محسوبون على التيارات الإسلامية في مجال الدعوة الإسلامية «الدعاة الجُدد» انظر ظاهرة الدعاة الجدد للكاتب وائل لطفي؟ وما رأيك للتجارب الفنية المختلفة ـ التي قدَّمها شباب كثرٌ ممَّن هم منتمون إليك ـ والتي لاقت رواجًا كبيرًا بين أوساط كثيرة من الشباب رأوا فيها الوسطية والحلقة المفقودة أمام موجات تغريبٍ واضحة؟ لم تسمَّرتَ أمام هذه التجارب واكتفيت فقط بالمشاهدة والتصفيق دون أن تسخِّر إمكاناتك لتكون لاعبًا رئيسًا بدلًا من أنْ تأنس مقعد المتفرِّجين؟ ثم ألا يعد نجاح هذه التجارب الشبابية علامةً على قبول المجتمع للفن الإسلاميِّ العصريِّ الذي يقدِّم لهم الدين في وجبات عصرية تخاطب عقولهم وأفكارهم؟»

  • ويأتي غيابُ وضوحِ مفهومِ الفنِّ عند الإسلاميين، وعدم وضوح حكمه بين الحرام والحلال من أبرز الأسباب التي قد أدَّت إلى هذه الظاهرة، أضف إلى ذلك التعلقَ المَرضيَّ السطحيَّ بثُنائية الحلال والحرام، بغضِّ النظرِ عن التعمق في الأمور والبحث فيها، ثم لا تنسَ أنَّ الفن أمرٌ صعبٌ للغاية، كما أنَّ إجادته وإتقانه أمورٌ ثقيلةٌ على النفس؛ لذلك فالأيسرُ هو التحريمُ أو الكراهيةُ، وليت أنّ الأمر قد انتهى عند ذلك، بل امتدَّ نهم التحريم إلى  الموسيقى والفيديو كليب والتماثيل والتصوير، حتى التلفاز الذي حرَّمه العلماء في بداية الأمر، لا يزال على نفس المكانة من التحريم في بعض الأدبيات الإسلامية!
    «وليس عندي ما أقوله في هذه النقطة سوى سؤالٍ يتيم: إنْ كان كلُّ ما قلتَه في هذه النقطة صحيحًا.. فما دورُ مؤسستك الفقهية أصلًا؟».

كمشهدٍ عبثيٍ عابرٍ

يتراقصُ أمامي الآن مشهدُ شابٍّ نحيفٍ في أزقَّة لندن الباردة، بعد اثنتين وعشرين سنةً من الآن ـ إنْ كنتُ من الأحياء حينها ـ وهو يمسِكُ بما تبقى من ياقة قميصي، ثم يرددُ أمامي ما قاله الدكتور إسماعيل الفاروقي في أوَّل المقالة عن دور الإسلام في ترسيخ الفن، ثم يعاودُ الشابُ نفسُه طرح ما قاله المستشرقُ النمساوي غوستاف جرونبوم، حين ادَّعى بأنَّ الإسلامَ لمْ يقدِّم أيَّ دعوة للجمال، ولم يكن جميلًا قط! يتمتمُ الشابُّ بكلماتٍ تبدو لي توبيخيةًّ، فيها رائحةُ تحميلِ مسؤوليةٍ، ثم ينصرف!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد