“تقدموا ما استعطتم نحو الآستانة والهند، إن من يحكمهما سيكون سيد العالم بلا منازع”
هذه الوصية تُعرف بوصية بطرس الأكبر، وهو قيصر روسيا الخامس (1682م _ 1725م).
ترجع الجذور التاريخية للاهتمام الروسي (القيصري/ السوفياتي/ الروسي الاتحادي) بمنطقة الشرق الأوسط ومحاولات مد النفوذ إليها، إلى أيام الحكم القيصري الروسي، فالتطلع الروسي إلى المنطقة العربية ليس بالأمر الجديد.
فقد كانت رغبة جامحة في الوصول بأي وسلة إلى المياه الدافئة على طول فصول العام حيث طريق الهند وأفريقيا، وكذلك رغبة الاتحاد السوفياتي السابق في تقوية مركزه في السياسة الدولية وتعزيز أمن حدوده الجنوبية وحمايتها من أي اعتداءات خارجية.
وفي عام 1993 قام الرئيس الروسي الأسبق يلتسن بالموافقة على خطة متكاملة لسياسة روسيا في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وضعتها وزارة الخارجية ولجنة الشئون الخارجية في البرلمان الروسي، اشتملت على عدة مبادئ رئيسية منها:
ضمان المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، على مختلف المستويات.
منع امتداد الصراعات الإقليمية من هذه المنطقة إلى المناطق الجنوبية من كومنولث الدول المستقلة الذي أُنشئ بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
تأثرت السياسة الروسية إلى حد كبير بالواقع الجغرافي، وهذا الواقع الجيوبوليتيكي هو الذي دفع روسيا دفعًا إلى الاهتمام بالمنطقة العربية منذ قديم الزمان.
وعلى الرغم من اتساع مساحة الدولة الروسية، إلا أن معظم حدودها إما تطل على بحار متجمدة لا تصلح للملاحة، وإما تطل على بحار مغلقة. وهذا الواقع البحري كان الدافع إلى الحاجة المستمرة إلى كسر الحصار الجغرافي الطبيعي.
أهم المنافذ البحرية الروسية
– جزر الكوريل:
هي عبارة عن مجموعة جزر تقع في أقصى شرق روسيا، احتلها الاتحاد السوفياتي بعيد استسلام اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. تنبع أهمية هذه الجزر بالنسبة لروسيا من كونها مدخلًا إلى بحر أوخستك وممرًا مهمًا يوفر لها فرصة الوصول إلى المحيط الهادئ، فضلًا عن احتوائها على كثير من الموارد البحرية والمعدنية.
وتسبب هذا الوضع في توتر العلاقات بين موسكو وطوكيو، وما زال الخلاف حول هذه الجزر قائمًا.
– بحر قزوين:
هو أكبر مسطح مائي مغلق على الأرض، فهو بحر مغلق بين آسيا وأوروبا، وثاني أكبر وأغنى منطقة بثروات النفط والغاز في العالم.
كان هذا البحر يُحكم باتفاقيات بين إيران والاتحاد السوفياتي السابق، حيث كانتا الدولتين المطلتين على هذا البحر. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991 واستقلال الدول التي كانت خاضعة لسيطرته، أصبحت هناك خمس دول تطل على بحر قزوين بدلًا من اثنتين فقط، وهي روسيا وإيران وتركمانستان وكازاخستان وأذربيجان. ولم تتوصل تلك الدول حتى الآن إلى اتفاق واضح حول كيفية تقسيم رسم حدودها على بحر قزوين.
– البحر الأسود:
والبحر الأسود أيضًا بحر داخلي يقع بين الجزء الجنوبي الشرقي لأوروبا وآسيا الصغرى، ويتصل بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق مضيق البوسفور.
والدول المطلة عليه هي: أوكرانيا وروسيا وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا.
بعد أن أصبح البحر الأسود منطقة نفوذ أطلسية، حيث أصبحت بلغاريا ورومانيا عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك بعد أن وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية مع رومانيا في 2005 اتفاقية تسمح للقوات المسلحةالأمريكية باستخدام قواعد عسكرية ونشر قوات أمريكية في قاعدة على البحر الأسود.
فقد أثّر ذلك بشكل كبير على المكانة الروسية ودورها التاريخي، فكان ذلك أحد أهم العوامل الدافعة بقوة إلى الاتجاه الروسي إلى تعزيز موقعه في البحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن الرغبة التاريخية الإستراتيجية القديمة.
وطبقًا للمعادلة الجيوبوليتيكة العالمية التي تفيد بأهمية السيطرة على البحرين معًا (البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط)، فالخاسر في أحدهما خاسر في الآخر، وهذه المعادلة تدركها القوى الكبرى جيدًا.
والدافع الروسي إلى تقديم كل هذا الدعم إلى الحليف السوري هو الصراع الدولي على البحر الأبيض المتوسط. فسوريا الآن هي البوابة الروسية الوحيدة إلى البحر الأبيض المتوسط.
ويعود تاريخ العلاقات الروسية – السورية إلى زمن بعيد، حيث كان الاتحاد السوفياتي من أوائل من اعترفوا باستقلال سوريا منذ 1944 في حين انتظر المجتمع الدولي حتى 1946 للاعتراف باستقلال سوريا. وأقيمت علاقات دبلوماسية روسية – سورية، وكانت سوريا الخيار الأفضل بالنسبة للاتحاد السوفياتي لتكون منفذًا لها على البحر الأبيض المتوسط.
ازدادت النشاطات البحرية الروسية في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط منذ 2012، هذه النشاطات تجسد الدعم العلني الروسي لحليفها السوري، وسلّط الضوء من جديد على المصالح الروسية في البحر الأبيض المتوسط. وهذه الدبلوماسية البحرية توضح الأهمية التي يعطيها الكرملين للشراكة الإستراتيجية مع سوريا.
وميناء طرطوس – أو إن شئت قل قاعدة طرطوس العسكرية الروسية – تمثل هذا النفوذ الروسي الوحيد في البحر الأبيض المتوسط.
تلك الأحداث التي تجري في سوريا منذ 2011 قد بينت مرة أخرى أهمية المصالح الروسية في الشرق الأوسط، وهذه المصالح ليست رغبة جديدة مستحدثة، بل تعود كما ذكرنا إلى العصر الإمبراطوري الروسي حيث السعي الدائم إلى المياه الدافئة واحتلال مكانة عالمية مؤثرة..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست