قدمت عملية “عاصفة الحزم” في اليمن لخطوة عربية متقدمة، أفضت إلى حالة من التفاؤل في الأوساط العربية، وباتت أنظار الشعوب والساسة تتجه صوب المملكة العربية السعودية. ومن ما لا شك فيه أن ما قامت به المملكة رفع من سقف الآمال والطموحات لدى شعوب المنطقة خاصة الشعب الفلسطيني الذي يشهد حالة واسعة من الإعراض العربي والدولي عنه، في ظل حالة التنكر لحقوقه، والتغول الصهيوني تجاهه.
ومن المعلوم أن استراتيجية الأمن العربي مهددة بمشروعين أساسيين في المنطقة، هما ”المشروع الصهيوني” و“المشروع الإيراني” اللذين استغلا حالة الفوضى التي غرقت فيها المنطقة للتمدد، حيث تمكن الصهاينة من تحسين الوضع الاستراتيجي لدولة الكيان من خلال إضعاف دول الطوق، والإبقاء على معاهدة السلام مع “مصر” ورفع قدرتهم على احتواء أي تهديد يتشكل على حدودهم الشمالية، وهو ما يدفعنا إلى عدم إغفال الخطر الكبير الذي يمثله وجود “المشروع الصهيوني” على المنطقة العربية والإسلامية، في ظل تمدد “المشروع الإيراني”.
في المقابل أظهرت التحولات الإقليمية مدى الانتهازية التي يُعبر عنها بعض القيادات الفلسطينية، ممن سارعوا تلميحًا وتصريحًا لتأليب المملكة على المقاومة الفلسطينية، في رغبة منهم لزيادة حالة التشرذم العربي، ولقطع الطريق أمام أي تحسن إيجابي في العلاقة السعودية مع المقاومة الفلسطينية، في حين تثبت المعطيات الخطأ الذي وقعوا فيه بدعواتهم تلك، فمصالح المملكة السياسية والاستراتيجية تقتضي اليوم تقديم الدعم للشعب الفلسطيني ومقاومته، وكذلك الحاجة فلسطينيًّا للمملكة كبيرة في ظل الوضع الراهن، وهو ما سأعمل على إيضاحه في عدة نقاط:
انتهاء صلاحية مبادرة السلام العربية
أعرض الاحتلال الإسرائيلي بشكل فج ومتعالٍ عن مبادرة السلام العربية التي تقدم بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز حينما كان وليًا للعهد عام ٢٠٠٢م، والتي اجتاز فيها العرب “لاءاتهم” التاريخية المرفوعة منذ قمة الخرطوم عام 1967م، حيث أقروا فيها بوجود “إسرائيل”، وعرضوا فيها تطبيع العلاقات بشكل كامل مع الاحتلال، وهو ما جوبه برفض من قبل الاحتلال في ذلك الوقت، وهو ما يعتبر أيضًا إهانة للمملكة العربية السعودية بوزنها السياسي ومكانتها الدينية، وانتكاسة لسياستها الخارجية.
وسيرًا على ما اصطلح عليه بـ”العهد السلماني” والتحول الذي ظهر في السياسة السعودية لا بد من أن تكون للملك سلمان سياسته الخاصة بالقضية الفلسطينية، وذلك أن الملك عبدالله لعب دورًا حاسمًا في تجاوز المعارضة المحتملة من قبل بعض الدول العربية، وفي ضمان صدور المبادرة بالإجماع. ومن مصلحة السعودية أن يتم تجاوز المبادرة في الفترة المقبلة، في ظل تبدل أولويات السياسة الخارجية.
وسيمثل تلويح المملكة بسحب مبادرة السلام العربية، خطوة متقدمة على صعيد تعزيز النفوذ الإقليمي والدولي، وسيسهم ذلك في إيجاد حيز واسع من الثقة مع الشعوب العربية والإسلامية، وسيمثل ذلك أيضًا ورقة ضغط عربية جديدة على الاحتلال.
ترتيب البيت العربي
أثبتت التطورات الراهنة خطورة حالة التفكك العربي، وما ينطوي عليها من تمدد للنفوذ الأجنبي، حيث برزت حاجة الوطن العربي مجددًا لاستثمار مقوماته الدينية والأمنية والاقتصادية والثقافية، التي تؤهله للصمود أمام المخاطر والتحديات التي يتعرض لها.
وكان من أبرز تجليات حالة التشرذم، هي الحالة السيئة التي انتهت إليها القضية الفلسطينية حيث أصبحت بين مطرقة الاحتلال وحلفائه، وسندان المتاجرين الذين لا يكفون عن ذبح أبناء هذه المنطقة من الوريد إلى الوريد تحت شعارات “المقاومة” و”دعم فلسطين”. وهو ما يستدعي تدخلًا عربيًّا تقوده السعودية لدعم المشروع الفلسطيني، وتوفير المخصصات المالية التي تنوء به عن الابتزازات الغربية.
ومن ثم تبرز الحاجة كذلك لكبح جماح التهور المصري، الذي يمعن في تشديد الحصار على أهل قطاع غزة، وهم مسلمون عرب أقحاح يدينون بالولاء لأبناء أمتهم وعمقهم العربي، وسيكون للدور السعودي في حال تحركه إسهام كبير أيضًا في إيقاف ضخ الأموال القادمة من بعض الدول الخليجية التي تسعى جاهدة لتصدير شخصيات منبوذة عربيًّا وفلسطينيًّا.
البعد الإقليمي والديني
تبني السعودية للقضية الفلسطينية مجددًا وتحركها نحو فك الحصار عن قطاع غزة، سيفقد الإيرانيين واحدة من أهم الأوراق التي اعتمدوا عليها لتعزيز نفوذهم، ولتصدير أنفسهم على أنهم “شرطي المنطقة”.
وفي نفس الاتجاه سيعمل ذلك على وقف تمدد الحركات “المتطرفة” التي تستخدم القضية الفلسطينية كأداة ترويج لذاتها وأفكارها، وهو ما سيسهم بشكل كبير في نفي شبه الإرهاب عن الجهاد، وسيفتح الباب أمام مراجعات مهمة لدى كثير من الشخصيات التي اندفعت نحو تلك التيارات دون تفحص أو روية.
ومن المعلوم بأن موقف المملكة من قضية فلسطين من الثوابت الرئيسية لسياستها منذ عهد الملك عبدالعزيز، حيث قامت المملكة بدعم ومساندة القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها وعلى جميع الأصعدة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية).
السعي لتطوير العلاقات
التطورات التي شهدتها المملكة الفترة الماضية رفعت من سقف الآمال عربيًّا وإسلاميًّا، ومن ما يدعو إلى الاستثمار في السعي فلسطينيًّا لتحسين العلاقة مع النظام السعودي الجديد، السيرة الجيدة للملك سلمان الذي لطالما أوردت التقارير المنشورة غربيًّا حول “الإرهاب المالي” اسمه، خاصة عند التطرق إلى الدعم الإغاثي وتشعباته التي يسعون دائمًا لربطها بالتنظيمات “الإرهابية”.
وكان عدد من الباحثين الغربيين ينظرون بعين الريبة لشخص الملك وإمكانية وصوله إلى سدة الملك. ونشرت مجلة فورين بولسي الأمريكية مؤخرًا تقريرًا تحت عنوان “التاريخ المشبوه للملك السعودي الجديد”. ويعد الجناح السديري الذي يمثله الملك سلمان أكثر تدينًا وأقرب للتصالح مع الحركات الإسلامية.
وبرز اسم الملك سلمان في دعمه للشعب الفلسطيني، في رئاسته لمجموعة اللجان الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين من عام 1967م، وكان صاحب شعار “ادفع ريالًا تنقذ عربيًّا” الذي يعرفه العرب وأهل السعودية خاصة، والذي كان ردًّا على الشعار الصهيوني العنصري الذي كان يقول: “ادفع دولارًا تقتل عربيًّا“.
وكان للملك دور بارز في دعم الانتفاضة الأولى عام 1988م ورعاية أسر الشهداء والأسرى على مدى 35 عامًا، ومع بداية الانتفاضة الثانية بادرت المملكة في مؤتمر القمة العربي في القاهرة (2000م) باقتراح إنشاء صندوقين باسم صندوق “الأقصى” وصندوق “انتفاضة القدس” برأس مال قدره مليار دولار وتبرعت بمبلـغ (200) مليون دولار لصندوق “الأقصى” الذي يبلغ رأس ماله (800) مليون دولار، وتبرعت بمبلغ (50) مليون دولار لصندوق “انتفاضة القدس” الذي يبلغ رأس ماله (200) مليون دولار. ومثلت هذه المبادرات في حينها أهمية كبيرة في دعم جهاد وصمود الشعب الفلسطيني، وساهمت في تعزيز الجبهة الفلسطينية الداخلية بالشكل الذي ضمن استمرار المقاومة وصد العدوان.
والسعي لتطوير العلاقات مع المملكة في الظرف الراهن ينبغي أن يرتكز على تقديم بديل استراتيجي يتوافق معها فـي القـيم والتوّجهـات السياسية، وهو ما قد يولد القدرة والرغبة لبنـاء علاقـات مشـاركة علـى المـدى البعيـد تحقّـق مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح المملكة في نفس الوقت.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست