«مش يمكن لما أجرب أطلع بعرف»

هذه الجملة هي النصف الباقي من عنوان المقال!

سمعتُ هذه الجملة لأول مرة في أحد الأفلام، وكانت من الفصاحة بمكان حتى أنني أعدتها مراتٍ ومرات، وصارت في ذهني ثابتة راسخة وكلما رأيتُ من يتبع هذا المبدأ انتفض عقلي ضاحكا: ها هو!

على الرغم من بساطتها، وعلى الرغم من الكوميديا التي تُقال بها، إلا أنها فصيحة معبرة، قادرة على تخطي جميع الحواجز بين الطبقات، لتصبح أسلوب حياة للمثقفين والجُهّال، الأغنياء والفقراء، السياسيين والأطباء والمهندسين وغيرهم!

ولكن لماذا؟ لماذا أخذت هذه المكانة عن غيرها بالذات؟ ربما لأن أمر الإعداد والتخطيط والتجهيز والترتيب والتقييم أمورٌ ثقيلة، فإذا كانت التجربة قد تجعلنا قادرين على التنفيذ، فلم نثقل نفوسنا بهذه الأمور؟ لم نضيع الأوقات في التنظير؟ وجهة نظر نسمعها كثيرًا.

ليست المشكلة في الكلمة أو في الفعل المترتب عليها، فمن الممكن أن تفشل وتتعلم بالتدريج من فشلك، ولكن المشكلة أن تطبيق هذه (النظرية) في الأمور العظيمة ينتج خسائر عظيمة! وقد رأينا أن الخسائر قد تصل للأرواح والدماء، فليست أمور الناس ومصالحهم مواطن تجربة وخطأ وتعلم أبدًا.

مع العلم أنه بازدياد أهمية المكان وقيمته يزداد الوقت اللازم للتفكير والإعداد والتخطيط. أما عن التجربة والتعلم فلهما مواطن غير مواطن التطبيق والفعل.

ولكن.. ما هو الإعداد أوالاستعداد، وكيف قلت قيمته بمرور الوقت؟ الإعداد والاستعداد، في فنون الحرب والقتال يعرفونه بأنه الخطوة الأولى في النصر أو الهزيمة وهذا أمر من البداهة بمكان. ولكن كيف خرج هذا الأمر البديهي الذي لا يختلف عليه أحد، كيف خرج من فعلنا مع بقائه في عقولنا؟ واتفاقنا – ولو نظريا – على أهميته؟

فلنبدأ بتعريف معناه في المعجم أولًا.

أعد الشيء بمعنى: هيأه وجهزه، فطبيعي أنه يجهزه ويهيؤه لأمر ما، بمعنى أنه يتصور أمرًا، ثم يعد موارده المادية والمعنوية بطريقة ما لتتناسب مع هذا الأمر، وهذا ما يعرف حديثا بالتخطيط بكل فروعه.

1- معرفة نفسك ومواردك جيدًا (أين أنت)

2- معرفة ما تريده جيدًا (أين ستذهب)

3- كيف وبأي طريقة ستذهب وأي درب ستسلك (الخطة)

وقد وضع صن تزو في كتابه فن الحرب سيناريوهات لنجاح أو فشل الحرب كالتالي:

«إذا كنت تعرف نفسك جيدًا وتعرف عدوك جيدًا، فلا حاجة بك للخوف من نتائج مائة معركة. إذا كنت تعرف نفسك ولا تعرف العدو، فكل نصر ستحرزه سيقابله هزيمة ستتلقاها. إذا كنتَ لا تعرف نفسك ولا تعرف العدو، ستنهزم في كل معركة» (1)

والتاريخ يؤكد ذلك بكل بساطة.

إذا كان الأمر هكذا، فما بالنا جميعًا من أقل المناصب وصولًا لصناع القرار والقادة، ما بالنا غير مهتمين بالإعداد والتخطيط وإن قلنا عكس ذلك؟

نعم هناك سبب رئيسي وهو المصالح الشخصية والأهواء، ولكن هذا السبب لا يفسر سلوك مجتمعات كاملة! ربما فسر سلوك بعض أفراد المجتمع، ولكن ماذا عن البقية؟

حسنًا، جميعنا يعلم أن درجات الاقتناع تتفاوت، فبعض الاقتناع قد لا يجعلك تنفق مليمًا على الفكرة.. وإن أعجبتك، فهو اقتناع واهٍ ضعيف، وبعض الاقتناع يجعلك تضحي بحياتك في سبيل الفكرة، اقتناع شديد لا يُمكن نزعه بأي قوة!

أقصد أنه لكي يقوم أحدهم بتطبيق فكرة ما، فرؤيته للفكرة بأنها جيدة وجميلة غير كافٍ لتحويلها إلى واقع! بل يجب أن يراها هي الأصح، وأن يزيل من تفكيره الأفكار التي تمنع هذه الفكرة من النضوج والتمكن، وأن يمهد لها السبيل داخله أولًا ثم في محيطه ثانيًا.

حسنا، ما الذي يمنع فكرة الإعداد من النضوج والتمكن؟ أمورٌ كثيرة! أرى أهمها الروايات التاريخية المجتزأة عن نصر الرسول والصحابة بأعداد قليلة على المشركين الذين كانوا أضعاف أضعاف المؤمنين.

ما هذا! هل تجرؤ أيها الكاتب على التشكيك في التاريخ الإسلامي؟ كلا كلا، افهم مقصدي جيدًا ثم احكم بنفسك.

فلنتصور أننا الآن في أحد المعارك بين المسلمين والمشركين، ها هو صوت صليل السيوف وصهيل الأحصنة نسمعه كنغمٍ جميل يعيد إحياء أمتنا من الموات، وأعلم أننا نود لو نظل في هذا المكان ولا نعود إلى عصرنا مرة أخرى ولكن، الله المستعان.

المهم أننا في الحرب الآن، نرى على يميننا مسلمًا لا نعرفه، ولكن نرى العزم الفتي في عينيه، والقوة الباطشة على الباطل تتراءى كشمسٍ في وضح النهار، وهو ذاهب للنصر أو الشهادة، وكلاهما له نصر، وهو لا يشرب الخمر، وشهواته موجهة في الحلال، ويقينه بالله يمنعه مما نسميه التشاؤم أو اليأس، ويشعر بأهميته لدى قيادته واهتمامها برأيه وحرصها عليه كما تحرص على قائد الجيش، وها هو يركض نحو أحد المشركين بسيفه القاصم، وعلى الجانب الآخر مشرك يحب الدنيا ويكره الموت، شاربٌ للخمر، لم يحارب إلا لعصبية بغيضة ويتمنى لو تنتهي الحرب الآن، وهو قد يكون فقيرًا ولا يهتم لأمره أحد – كحال معظم جنود المشركين – وقد تلاقيا وكلٌ منهما يحارب الآخر، فلمن ستكون الغلبة؟

أليس المسلم في هذه الحالة بعشرة من المشركين؟ ففوزهم في الحروب لم يكن وليد صدفة أو محض حظ! وإنما – كما رأينا – وليد صفات النصر التي توافرت في المسلم وغابت في عدوه! صفات النصر التي تحرص تعاليم الإسلام على احتواء المسلم عليها دائما. وما إن انتفت تلك الصفات، عدنا إلى واقعنا الآن.

هذا – في رأيي – السبب الأول والرئيس لتناسي الناس قيمة الإعداد والتخطيط، سبب مغروز بقوة في اللاوعي الخاص بنا.

السبب الآخر.. كلنا تقريبا اتصل به يوما ما، وهو علوم التنمية البشرية، الزائف منها طبعا. أيقظ قواك الخفية، أخرج العملاق الذي بداخلك، حسنا ها أنا قد أيقظتها، فأين سأخرج هذه القوة؟ لا يهم، المهم أن تخرج وفقط. فترى الشباب يسعون لبذل كل طاقاتهم في أمور لا تعود عليهم بأي عائد! دنيوي أو أخروي.

تراهم يسيرون لتحقيق أحلام من حولهم وإن لم يدركوا، فكل حلم يراودهم هو في الحقيقة حلم رأوه في محيطهم يوما ما، ولكن أين ذواتهم الحقيقية؟ قد دُفنت يا صديقي وانتهى الأمر.

ولكن، ماذا سأتعلم؟ جميعنا يتمنى ويتمنى، وربما بعضنا يخطط، ولكن النتيجة متقاربة! على الأقل بالنسبة لمقاصد ديننا. ماهذا؟ هل أقنعتنا بالتخطيط طوال المقال لتأتي في نهايته وتقول بأن نتيجة التمني والتخطيط متقاربة! نعم. هو ذاك.

لأننا بارعون في اجتزاء الأشياء (الروايات التاريخية كمثال) فنحن أيضا نجتزئ العلوم، فالتخطيط بشكله الحالي هو علم غربي مناسب جدًّا لحضارتهم ولأهدافهم، ماذا عنا إذا أردنا أن نأتي به إلى هنا؟ المفترض – كما ذكرنا سابقًا – أن نحدد أين نحن جيدًا، وأين نريد أن نصل، ثم بعد ذلك يأتي دور التخطيط.

إذا أخذت طريقتهم في التخطيط كما هي، فسأصل إلى نفس ما وصلوا إليه، بتوضيح أكثر، علم التخطيط الحديث علم أمريكي بامتياز، يطبقونه في كل شؤونهم، ولكن النظرة الميكافيلية (2) السائدة تجعلهم يتنازلون عن الكثير في سبيل الهدف، فالتشدق بحقوق الإنسان منهجهم، ولكن لا مانع من إبادة دول كاملة في سبيل البترول (العراق) ولا مانع من قيام دولتهم على جثث البشر (الهنود الحمر).

ماذا عنا؟ يفترض بديننا أنه يريد نتائج مختلفة عن نتائجهم، أين نحن؟ انظر من نافذة منزلك وسترى كل شيء. لا أريد الإسهاب في هذه النقطة لأن غيري قد احترف في وصفها. والوضع واحد في كل البلاد العربية تقريبًا، يكمن الفرق في مستوى ظهور طفح الفساد لا في مستوى وجوده!

ماذا نريد؟ هذا السؤال له إجابات مختلفة، باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمان، فبعضهم إجابته هي الخلافة الإسلامية – التي يجهل كنهها معظم المسلمين – وبعضهم إجابته الحياة الجيدة من مأكل ومشرب وملبس، وبعضهم وبعضهم …، المهم أن نكون واضحين حق الوضوح في الإجابة، والإجابة غير الكاملة هنا ليست بإجابة. فالرؤية المستقبلية الواضحة هي التي ترجح تصورًا على آخر، وطريقًا عن آخر!

كيف سنصل؟ أرى هذا الجزء الأبسط، إذا حددنا ما نريده بوضوح، ولكن هناك ملاحظة أخرى هنا، في أمور التخطيط، مشكلتنا الرئيسية تكمن في الفاعلية وليس في نقص الوسائل، فكل التدريبات والخطط والإعدادات لن تحرك ميتًا. ونحن ننظر للأهداف العظيمة على أنها أمور مكملة للحياة، ننظر للأقصى على أنه قضية مليار مسلم، فنصيبنا منها ضئيل! وأقسم أنه إذا جعلها مسلم واحد قضية حياته الرئيسية فلن يخذله الله!

ولكننا قوم نحب الثرثرة.

—————————————-

1- صن تزو، فن الحرب.

2- ميكافيلي: رجل سياسة وفيلسوف إيطالي، صاحب كتاب (الأمير )، وواضع نظرية سياسية تقوم على الخداع ومحاولة الوصول للغاية بجميع الوسائل، وشعارها: الغاية تبرر الوسيلة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

التنظير
عرض التعليقات
تحميل المزيد