«ماشيين في طريق.. محناش عارفين احنا اخترناه ولا اختارنا».
يفتتح مسلسل شتاء 2016 أحداثه بهذا التساؤل بصوت الفنانة رشا رزق من خلال تترات المقدمة، ليضعنا أمام هذه القضية الأزلية التي نواجهها منذ لحظة ميلادنا ومجيئنا إلى هذه الحياة؛ فرحلة حياتنا ذاتها تكاد تتشابه إلى حد كبير مع هذه الرحلة التي تسلط عليها أحداث المسلسل الضوء، وتجعلها الخط الدرامي الرئيس وربما الأوحد في هذا المسلسل، ربما يرى البعض أن هذا التكثيف والتركيز على قضية محورية واحدة قد يمثل فقرًا دراميًّا لكني أخالف هذا الرأي تمامًا، إذ إنني أرى أن هذا التركيز ساهم بقدر كبير في الاستحواذ الكامل على المتلقي، فلا تدع لذهنه أو مشاعره أو لتفكيره الإفلات بعيدًا عن مضمون الرسالة التي يبعث بإشاراتها فريق العمل النابه، الذي قدم لنا هذا العمل على مدى 30 حلقة، خلال هذه الحلقات يحاول كل واحد من أفراد الرحلة طرح السؤال الذي تغنت به رشا رزق في التترات بصور مختلفة، لتضعنا نحن أيضًا في مواجهة مع أنفسنا، خاصة عندما تقف الصحافية نجاة التي أدت دورها الفنانة التونسية ريم جبنون – في حلقة تقترب من نهاية الأحداث- أمام نفسها في حالة مواجهة لتسأل نفسها: «مش عارفة يا ترى اللي عملته ده صح أو غلط؟» ثم تتبع تساؤلها هذا في حلقة تالية بما يشبه الاعتراف بأنها تمنت في لحظة من لحظات هذه الرحلة العصيبة لو أن الزمن قد توقف عند عام 2010؛ أي ما قبل ثورة يناير (كانون الثاني)؛ لتعود صحافية طموحة وزوجة لزوج يبدو وكأنه زوجًا صالحًا ووفيًّا لها، وابن لم يأت للحياة بعد، وتقول صراحة: «يا ريتنا ما قمنا بثورة». ثم تتساءل من جديد: «احنا كان مالنا ما كنا عايشين»!
هذا التساؤل يطرحه كل أفراد الرحلة بصورة وطريقة مختلفة، بل قد يطرحه كل واحد فينا ممن يخوض رحلة الحياة ذاتها، أو من قرر فينا أن يخوض رحلة الثورة على حال تصور أنه أسوأ حال فإذا به يواجه ما هو أسوأ، لنجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية يواجهنا بها الشاب الإخواني في المسلسل وهو «الدكتور علي» الذي قام بأدائه الفنان الشاب: عمرو مسعد، حين يقول تعليقًا على ما يواجهه من صعوبات ومعاناة وإهانات، واضطراره للتنازل أمامها حتى يكمل رحلته إلى السودان بحثًا عن الحرية: «احنا ليه بنتهان كدة؟ علشان الحرية؟ طب وليه عايزين الحرية؟ علشان ما نتهانش؟ هي دي الدايرة العجيبة اللي عايشين فيها في بلدنا»! وكأننا نضع أنفسنا في مأزق حالي بحثًا عن حل للخروج من مأزق سابق، إنه واقع الهاربين من الجحيم أو «الفراخ» كما كان يطلق عليهم المهربون في المسلسل، وربما في الواقع، واقع يسيره ويسيطر عليه الكبار، ولذلك تكون الخطيئة الكبرى أن يحاول هؤلاء «الفراخ» تغيير واقعهم التعس، وتعبر أغنية تتر النهاية عن هذه المأساة فتقول بصوت المطرب عبد العظيم الذهبي: «خبر عاجل وحصري وسبق، فيه ناس عايشة بأكل الحق، وناس مشيت وسايبانا عشان غلطت وقالت لأ» لكن العجيب أن يواجهنا المسلسل بأن واحدًا من هولاء «الفراخ» كان من رجال السلطة الذي تضطره الظروف للهروب في الصندوق المتحرك نفسه أو سيارة «جورباتشوف» التي تحتوي «إرهابيًّا» في عرف السلطة، هارب من القضية نفسها التي كانت سببًا في هرب هذا الضابط الذي قام ببطولته الفنان هشام عبد الله، أي إن المساواة الوحيدة التي تتحقق بين أفراد الشعب وأفراد السلطة هي غضب أصحاب النفوذ والسلطة على من يسعى ولو بقدر ضئيل نحو إزاحة مظلة الفساد، التي أحاطت بالمجتمع الدولي كله، وليس داخل الوطن فقط، فرحلة الهروب إلى السودان تكشف هذا التشابك العميق ما بين كل الأجهزة السيادية، وما بين قوى المال والثروة والهيمنة والنفوذ على مستوى يتخطى حدود الدول ويتلاعب بمصائرها ومصائر شعوبها.
هنا تظهر شخصية «جورباتشوف» الذي يعد واحدًا من هذه المنظومة الفاسدة، لكنه لسبب ما يقرر أن يلعب لصالحه فقط، مما يجعله يسير في اتجاه معاكس لمصلحة هذه القوى الكبرى، لكن أيضًا لا يهمه من قريب أو بعيد مصلحة «الفراخ» الذين يسعون نحو الهرب إلى السودان كما يسعى هو نحو الهدف نفسه، ولكن لسبب مختلف تمامًا عن أسبابهم؛ فهو يريد تهريب شحنة من سبائك الذهب إلى السودان لصالحه هو، لذلك يتخلص من مساعديه واحدًا تلو الآخر، كما أنه أيضًا لا يثق بأحد أبدًا، حتى لو كان هو نفسه، كما قال في أحد المشاهد لأحد مساعديه، يقول له: «جورباتشوف لا يثق في عامر وعامر لا يثق في جورباتشوف»، وعامر هو اسمه الأصلي، لكن على قدر فساد جورباتشوف فإنه لم يكن يملك أدوات المواجهة الكاملة لهذه المنظومة الفاسدة الكبرى، وكذلك على قدر فساده فإنه كان يملك قدرًا ضئيلًا من إنسانية جعلته يتخذ قرار مواجهة هذه المنظومة في اتجاه آخر غير الاتجاه الذي سعى نحوه مع بداية أحداث المسلسل.
ربما كان هذا التحول في شخصية «جورباتشوف» مثاليًّا نوعًا ما، لكنها مثالية تدفع بالمشاهد نحو الأخذ بشعلة من الأمل نحو تغيير الواقع، حتى وإن كان مستبعدًا، فهل كانت شخصية «قائد» السيارة «جورباتشوف» التي قام ببطولته الفنان هشام عبد الحميد تمثل النظام العسكري في مصر؟ فمن المؤكد أن للاسم دلالته، سواء كان «جورباتشوف» أو «عامرًا»؛ فالأول كان اسم آخر رئيس للاتحاد السوفيتي الذي لم يعد له وجود الآن، والذي كانت تتبعه المؤسسة العسكرية المصرية حتى اتفاقية كامب ديفيد، والثاني كان لقب وزير الحربية المصري الذي حمل وحده مسؤولية كارثة 1967، أو ما سمي بالنكسة، وانتحر بفتح الألف أو ضمها على إثر الهزيمة النكراء، التي غيرت تاريخ وجغرافيا هذه المنطقة إلى يومنا هذا، لكن هذا لا يمنع أن للمؤسسة العسكرية المصرية بعض الوجوه الطيبة، مثلما كانت شخصية جورباتشوف في المسلسل، فهل كانت نهاية جورباتشوف ونهاية أحداث المسلسل تشير بشكل صريح إلى نهاية جيل ما قبل كامب ديفيد من المؤسسة العسكرية؟ أم أنها كانت تشير إلى أن الحل الوحيد لهذا المأزق الكبير الذي نعيشه هو خروج المؤسسة العسكرية من المشهد كله، وترك القيادة لهذه المجموعة الحرة التي ترفض الفساد؟!
نعود إلى سيارة جورباتشوف التي تذكرنا بسيارة الترحيلات في فيلم «اشتباك»، وقد يسارع البعض في الإشارة إلى أن شتاء 2016 ربما يكون مستلهمًا من قصة فيلم «اشتباك» للإخوة «دياب» لكني أجد اختلافًا كبيرًا بينهما، رغم تشابه عدة نقاط بين الفيلم والمسلسل؛ ففيلم اشتباك تقع أحداثه في سيارة ترحيلات متوقفة لم تتحرك إلا نادرًا، وهو يحاول أن يلقي الضوء على العلاقات الإنسانية بين كل الأطراف المتضادة والمتناقضة داخل هذه السيارة، التي تصور حال «المأزق» نفسه الذي يعيشه المجتمع المصري بعد ما يسمى بثورة 30 يونيو (حزيران)، لم يلق الفيلم الضوء على أي من أسباب الصراع خارج هذه السيارة، وهو ما يجعلني أراه فيلمًا إنسانيًّا لا يخص موقعًا بعينه على ظهر هذه الأرض، وإنما يخص أنماطًا مختلفة من البشر قد تلتقي في أي زمان ومكان، مثلها في ذلك مثل المجموعة التي اجتمعت داخل مصعد فيلم «بين السماء والأرض»، بالإضافة إلى أن فيلم «اشتباك» على الرغم من أن مؤلفيه ومخرجه من أبناء ثورة يناير 2011، وعلى الرغم من أنه يعد نغمة نشاز إيجابية وسط سياق الصوت الواحد للنظام الحاكم، فإنه لم يخرج للنور إلا بمباركة أجهزة هذا النظام، وفي حمايته، ووسط احتفاليات واستقبال أجهزة الإعلام التابعة لهذا النظام لأبطاله والقائمين عليه، وذلك بعد موجة دعائية منظمة سواء ضد الفيلم أو معه، إلا أنها مهدت لعرض الفيلم في صالات العرض، ومن قبل ذلك عرضه في مهرجان كان، بينما كان الحال معاكسًا تمامًا بالنسبة لمسلسل شتاء 2016؛ فهو إن لم يحارب من قبل النظام وأجهزة الدولة وأغلب الدول المتحالفة مع هذا النظام، فعلى الأقل لن يتلقى دعمهم ومباركتهم كما حدث مع فيلم اشتباك، الذي وضع بشكل أو بآخر لمسة إنسانية على وجه هذا النظام، وقدمه في صورة نظام يتقبل الرأي الآخر بصدر رحب، ولذلك من الظلم البين أن نضع مسلسل شتاء 2016 في مقارنة مع فيلم اشتباك، الذي قد يصنف ضمن دراما الثورة، إلا أن هناك فرقًا كبيرًا في الحالتين.
فبينما اكتفى فيلم اشتباك بعرض المرض أو «المأزق» الذي نعيشه، انطلق مسلسل شتاء 2016 خارج نطاق هذا المأزق المحدود، رغم الإشارة بشكل كبير إلى التفاعل الإنساني بين المتضادين أيضًا، إلا أن هذا التفاعل كان خيطًا من الخيوط المتشابكة داخل الخيط الأساسي الذي يشكل الخط الدرامي الذي يربط بين الأحداث كلها على مدى 30 حلقة، كذلك يقدم لنا المسلسل رحلة الخروج من هذا المأزق الذي يبدو وكأن لا نهاية له ولا حل، إلا أن المسلسل يضع أمامنا بعض النقاط المضيئة التي تجعلنا نتلمس طريقنا نحو آفاق رحبة نتمناها ونسعى لها جميعًا، لا أبالغ إن قلت إن أحد هذه النقاط المضيئة هو المسلسل ذاته؛ فهو يحمل قنديلاً قد نرى ضوءه من بعيد، لكننا نستطيع أن نراه ونرى بعضًا من ملامح الطريق الذي يرشدنا إليه ضوؤه.
إن فكرة إنتاج مسلسل بهذا الحجم وبهذه القيمة البصرية والفنية، وسط هذا الخضم المتلاطم من الإنتاج الإعلامي الذي يسيطر عليه جبابرة الإعلام و«الميديا»، والبيزنس والمخابرات، لهو أشبه برحلة هذه المجموعة من الشباب الذي رفض أن يعيش في النار كما تصفه أغنية جميلة معبرة داخل المسلسل، يغنيها الفنان الشاب محمد عباس، هذه الرحلة التي تحاول أن تخترق أجواء شديدة المخاطر وشديدة الصراع والتحدي، وغير مأمون عواقبها على الإطلاق، إلا أن هذه الرحلة تنتزع حق الوجود والإصرار على البقاء وسط كل هذه التحديات؛ لأنه لا خيار ثالث خلال هذه الرحلة.
لقد بذر هذا المسلسل الرائع بذور الخير في مواطن كثيرة، لم نكن نتصور أن مصر والعالم العربي بهما مثل هذه المواهب التي لم تكن لتظهر في أجواء «الشللية» والمصالح وتنافس شركات الإعلانات وشركات الإنتاج، وهيمنة السلطات والمخابرات على صناعة الفن والثقافة في مصر، ومنها إلى العالم العربي، هذا المناخ الذي ورث هذه الصناعة التي غرستها الأيدي اليهودية مع بدايات القرن العشرين في مصر، ومنها إلى العالم العربي أيضًا؛ لتصنع حالة الوعي الفاسد المتوارثة جيلاً بعد جيل على مر قرن من الزمان، والتي أحسب أننا نعيش آخر حلقاتها الآن، والتي ساهمت بشكل كبير في كل ما نواجهه من كوارث ومشكلات لا نهاية لها، كذلك أن يظهر لنا مسلسل بلا وصاية ولا يخضع لسلطة ما لهو أول خطوات طريقنا نحو الحرية.
لقد حاول هذا المسلسل أن يتجنب التحيز لجهة ما على حساب جهة أخرى، حتى إنني كدت أتصور أنه يحسن من صورة الشرطة والجهات الأمنية، رغم أنه قد تتهمه بعض الآراء على جانب آخر أنه قد يميل قليلًا في اتجاه التيار الإسلامي والإخوان؛ إلا أنه حاول أن ينقل صورة موضوعية محايدة وواقعية أيضًا لهذا المجتمع، ومن أهم البذور التي غرسها هذا المسلسل أيضًا أنه انتزع حق لتنافس احتكر لصالح أيديولوجية محددة على مدى قرن من الزمان أيضًا؛ فقد تشكل وعينا جميعًا على ثقافة احتكرها وهيمن عليها تيار اليسار والفكر العلماني حتى وصل الحال إلى محاربة هذا التيار الذي يتغنى دومًا بالحرية التي لا سقف لها لكل ما يحمل في طياته رائحة الفكر الإسلامي، حتى إنه أصيب بالجنون حين أقبل مجموعة من الفنانين ينتمون بصورة ما إلى التيار الإسلامي، على عرض فيلم سينمائي قصير خلال فترة حكم الرئيس محمد مرسي، فما كان منهم إلا أن وقفوا بالمرصاد بصورة علنية لا تقبل التأويل أو الشك ضد عرض هذا الفيلم، وأوصدت أمامه كل قاعات العرض حتى القاعات الخاصة مدفوعة الأجر، ووئد هذا الفيلم الذي قام ببطولته الفنان محمد شومان أحد أبطال مسلسل شتاء 2016.
إن الحديث عن هذا المسلسل قد يحتاج إلى صفحات وصفحات، ولا أظن أنني أبالغ إن قلت إن صفحات التاريخ ستكتب يومًا ما عن هذا العمل بوصفه من أهم الأعمال المؤسسة لواقع ثقافي جديد ومرحلة وعي جديدة تمامًا، تشكل ثورة في ذاتها وتعد صوتًا لمن ضاع صوته تحت أقدام عسكرية دانت لها السيطرة على كل شبر على هذه الأرض، بما فيها الفن والثقافة بل على رأسها الفن والثقافة.
كل التحية إلى كل من شارك في هذا العمل ولو بشطر كلمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست