في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا ظهرت حالات اجتماعية واقتصادية تتعلق بفقدان الأسرة للرجل، المعيل الوحيد لها نتيجة استشهاده أو اعتقاله أو اختطافه، أو من خلال عمليات التهجير الكبرى التي أفقدت معظم المهجّرين لممتلكاتهم وتجاراتهم وبيوتهم، الأمر الذي تسبب بتشرد العائلات وتيتّم الأطفال وترمّل النساء اللواتي أضحين وحيدات يواجهن حاجات أبنائهن؛ ما دفع الكثير من النساء للتوجّه إلى العمل سدًا لنفقات العائلة.
عملت المرأة السورية في السنوات الأخيرة في مهن مختلفة كالمعامل الصغيرة، والبيع والشراء، والتمريض والتعليم، كما عملت في ورشات منزلية وفّرتها بعض الجمعيات الخيرية وعدد من أهل الخير، ومن هنا أُثيرت عدة تساؤلات حول مشروعية عمل المرأة في ظل الظروف القاهرة التي باتت تحملها على عاتقها بعد فقد المعيل سواء كان الزوج، أو الأخ، أو الأب، أو الابن، فكان من الضروري توضيح وجهة نظر الشرع في عمل المرأة، والردّ على كل من يعارض عملها من دون دليل أو بديل.
قال الله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
أمر الله بالعمل دون أن يخصصه للرجل أو للمرأة، بل كان أمره سبحانه عامًا لكِلا الجنسين (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة).
وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم) فذكر التجارة والمعاملات المالية مطلقةً أيضًا دون تخصيص؛ الأمر الذي يدلّ على إباحة العمل للمرأة ضمن ضوابط شرعية واجتماعية محددة.
وعمل المرأة عُرف منذ فترة ما قبل الإسلام، فجاء الإسلام ليضبطه وينظم الإيجابيات ويمنع السلبيات وهذا دأبه في كل الأمور، فالسيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعمل بالتجارة، وعَرف العرب قديمًا العقود والمعاملات التجارية وقد أقرّ الإسلام ذلك بقوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فالنصوص من الكتاب والسنّة تشير إلى الذكر والأنثى جميعًا ولم تستثنِ أحدًا منهما في الخطاب والتوجيه الذي يبين ويوضح الطريق المستقيم.
ورعايةً للمرأة وحفظًا لها من الامتهان، وحتى لا تكون لقمةً سائغةً للمفسدين، ولأن الشريعة الإسلامية تحضّ على العمل والكسب الحلال ولا تمنع أحدًا من ذلك رجالًا أو نساءً، فهُم على حدّ سواء، إلا أنها لم تترك ذلك للفوضى بل وضعت حدودًا وضوابط تكفل وتضمن للملتزم بها من أن يقع في المحذور.
و يتلخص موقف الإسلام من عمل المرأة في الأمور التالية:
1- إن الإسلام يبيح العمل للمرأة، بل يوجب عليها أن تعمل في المجالات التي لها ارتباط بشؤون المرأة كالقبالة وطبابة النساء والتمريض والتدريس وتربية الأطفال، إضافةً للتجارة والزراعة.
2- أن تكون المرأة محتاجة أو تفرض ظروف المجتمع ومصالحه عملَها أو لم يكن لها من يعيلها.
3- أن لا يؤثّر عملها على قيامها بشؤون بيتها وإشرافها على تنشئة أولادها.
4- مراعاة الآداب العامة والابتعاد عن مواطن الربية والالتزام بالعفة لأن التهاون بهذه الآداب هو إساءة في استعمال الحق وتقويضٌ لبناء المجتمع.
5- أن لا تكلف المرأة القيام بالأعمال الشاقة التي لا تتناسب مع طبيعتها الجسدية وكرامتها كالعمل في مناجم الفحم أو تنظيف الشوارع.
6- أن لا يكونَ عملها مزاحمًا أو تسلّطًًا على عمل الرجال.
نظرة الإسلام إلى المرأة: المرأة مساوية للرجل وفق ما يلي:
1- الوجود الإنساني والكرامة قال تعالى (بعضكم من بعض) وقوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة).
2- التكاليف الشرعية والثواب والعقاب، قال تعالى (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة).
3- أهلية التملك، قال تعالى (وآتوا النساء صَدُقاتهن نحلة).
4- حق إبداء الرأي في الشؤون العامة والخاصة، قال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).
5- حق التعلم، قال صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). (1)
وقد عملت المرأة المسلمة في مهن كثيرة أقرها الشرع الحنيف، فعملت بالزراعة:
جاء في صحيح مسلم بسنده إلى أبي الزبير سمع جابر بن عبد الله يقول: طلقت خالتي فأرادت أن تَجُدَّ نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فَجُدِّي نخلك عسى أن تصَدَّقِي أو تفعلي معروفًا.
وفي صحيح البخاري عَن أَسْمَاءَ بنْت أَبي بَكْر رضي اللَّه عَنهما قَالَتْ:
تَزوَجنِي الزبير وَما له في الْأَرض من مال وَلَا مملُوك ولا شيء غيْر ناضِحٍ وغير فرسهِ فَكُنْتُ أَعلف فرسه وأَستَقِي الْماء وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِز جارات لي من الْأَنصار وكنَّ نسْوةَ صِدْقٍ وكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْض الزُّبَيْر الّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ.
كما عملت في التطبيب والتمريض:
فعمل المرأة في هذا المجال ضروري جدًا، بل ويجوز أن تمرض المرأة الرجال إذا كانت الضرورة تتطلب ذلك فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى.
وعملت في التجارة:
فقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها تعمل بالتجارة وكذلك بعض الصحابيات كزوجة عبد الله بن مسعود وتدعى رائطة.
وفي الموطأ بسنده الى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ تَبِيعُ ثِمَارَهَا.
وأكّد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة، أنه ينبغي علينا أن نطوّر نموذجنا الإسلامي الخاص بالمرأة، والذي يتواكب مع مجتمعنا وظروفه مشيرًا إلى أنه من الصعب تصور نهضة في أي بلد مع عزل المرأة عن المشاركة. (2)
كما أكّد العودة على أهمية عمل المرأة ودوره في التنمية وقال: إن من الجوانب الإيجابية لعملها كسب المال لتستغني هي وأولادها، وتنفق ولتتصدق وتكرم والديها، وهذا من المقاصد الشرعية، ولهذا منحها الله حق التملك، وكانت النساء أيام النبي صلى الله عليه وسلم تخرج وتبيع وتشتري، إضافة إلى أن عمل المرأة يعطيها جوانب من القوة والحركة، بدلًا عن القعود والركود، فضلًا عن دور المرأة في الحياة العامة.
يتبين مما سبق أن الشرع الحنيف أباح للمرأة العمل ضمن الضوابط التي حددها، بل إن عملها يغدو واجبًا عليها في ظروف كالتي تمر بها سوريا لتكون المرأة شريكًا أساسيًا في الانتصار على هذه الظروف الصعبة والقاسية التي يمر بها شعبنا نتيجة فقدان معظم العائلات السورية للمعيل وحالات التهجير واللجوء، فكانت المرأة السورية العظيمة بحق أختًا للرجال وعلى قدر المسؤولية فحملت العبء الأكبر من الثورة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست