كامرأةٍ متعلمةٍ نشأت في الشرق الأوسط، لطالما كنت من مؤيدي أية سياسةٍ من شأنها أن تصب في مفهوم «تمكين المرأة». وخلال 10 أعوام من العمل في منظمة تنضوي تحت مظلة الأمم المتحدة، فقد عشت بنفسي مآثر «تمكين المرأة» وإزاحة جميع العوائق الجندرية من أمامها حتى ترتقي في السلم الوظيفي بسلاسة اعتمادًا على مهاراتها وكفاءتها. لقد كان مكان عملي خلال تلك السنوات مثالاً للفقاعة الآمنة التي لا أقلق بداخلها من مزاحمة الرجال لي على حقوقي الوظيفية، وأعلم فيها تمامًا أن لا حظ لأي من الزملاء الرجال في امتيازات لا تحق له فقط لأنه «رجل»، وشاهدت زملائي من الرجال يتنافسون على الشواغر الإدارية تمامًا كزميلاتي، وكثيرًا ما يخرجون منها بروح رياضية حين يحسم الأمر لصالح الزميلة «المرأة» ويهنؤونها، ونتابع جميعًا حياتنا بسلام.
لكن قدوم طفلي الأول إلى الحياة جعلني أبدأ بالتساؤل، سرًا بيني وبين نفسي أولاً، وكان قدوم ابني الثاني إلى الدنيا هو اللغة التي ترجمت شكوكي الفلسفية إلى أسئلة مفهومة، وجعلني أسأل نفسي بكل وضوح وجرأة: ماذا بعد تمكين المرأة؟ وحتى أصل بكم إلى النقطة التي رأيت فيها، فعلاً، أن تمكين المرأة مفهوم منقوصٌ بشكله الحالي، لنعد إلى البداية. لنقرأ الحكاية من أول حرف فيها.
قبل مائة عامٍ من الآن، كانت صورة المرأة محصورة بشكلٍ واحد: الزوجة والأم، وكان ذلك أمرًا محمودًا ومقبولاً من الجميع. كانت العائلات تسعى لتزويج بناتها، وكان على المرأة أن تتفرغ تمامًا لدور الزوجة والأم، فحتى قبل أن تبدأ بممارسة هذا الدور، كانت حياتها في بيت أهلها تمرينًا على دورها القادم: فهي تتعلم كل ما يمت إلى العناية بإخوتها الصغار بصلة، وتتلقى تعليمًا مكثفًا لكل ما يختص بأعمال المنزل. لم يكن عمل المرأة أمرًا غريبًا، لكنه كان محصورًا في مهن معينة ينحصر فيها التعامل مع النساء، وفي الحالات التي يكون فيها عمل المرأة «حاجة»، فالخياطات، مثلاً، كنّ إمّا أرامل، أو «مبنّتات» (بمعنى من كبرت من الفتيات بلا زواج)، أو من تضطر للعمل لكفاية عائلتها مؤونة السؤال أو الاقتراض، وكذا الأمر بالنسبة لمهن كالقبالة الشعبية (الدايات) ومعلمات الفتيات. ربما لم يكن المجتمع ينتقص من قدر «المرأة العاملة» صراحةً، وكان بإمكان النساء العاملات أن يتواجدن في المجتمع بأريحية كغيرهن، لكن عنصر «الحاجة» المسكوت عنه في حقيقة المرأة العاملة كان يجعلها تدرك ضمنا أنها لا تملك أفضلية تنافسية في المكانة الاجتماعية أمام أي «خانم»، يتولى زوجها مسؤولية الإنفاق عليها.
في ذلك الزمن، كانت البنية الاجتماعية كاملةً ككلٍ، بما في ذلك الأدوار الاقتصادية في الأسرة، أمراً يعد من المسلمات، ونادراً ما كان خروج المرأة عن دور «الزوجة والأم» أمراً مقبولاً تحت أي ظرف. ربما ساهم هذا الوضع، جنبًا إلى جنب مع أسباب اجتماعية واقتصادية عديدة، في خلق حالة من التعامي عما يحدث تحت هذا الغطاء الذي يبدو جذابًا ومتوازنًا من تجاوزات. فقد شعر الرجال بسلطة غير قابلة للتحدي، مما شكل، في غياب الحكمة ورجاحة المنطق والعلم الشرعي والتراثي الكافي، ديكتاتوريات صغيرة يشعر الرجال فيها بالحرية لينتهكوا حقوق زوجاتهم وبناتهم بشتى الطرق. ومما زاد الأمر سوءًا لجوء العائلات التي تنتمي لها النساء إلى مطالبتهن بالصبر عوضًا عن اتخاذ أي موقف، خوفًا من الأعباء الاقتصادية والوصمة المتأتية عن أي طلاق محتمل. وفي ديناميكيات مشحونة كهذه، تجد المرأة نفسها فيها محصورة بين فكي كماشة الزوج والأهل، ولد مصطلح «تمكين المرأة»، والذي يتمركز حول تحقيق حالة من الاستقلال الاقتصادي للمرأة، بحيث يمكنها تخليص نفسها، واللجوء لمؤسسات المجتمع المدني لانتزاع حقوقها القانونية، دون الخوف من إمكانية ابتزازها اقتصاديًا من قبل أي طرف بهدف إخضاعها.
إذن، فقد وُلِد مصطلح «تمكين المرأة» باعتبار المرأة كيانًا مستقلًا، مُنتَزَعًا من سياق الأسرة. وذلك أمرٌ مبررٌ تمامًا، تماما كما يكون الكيّ بالنار مبررا حين تستنفذ قبله كل العلاجات الأخرى. لكن المفهوم خضع عبر الزمن لعمليات توسيع وإسقاط على مختلف أشكال المجتمعات والمؤسسات، حتى وصلنا اليوم إلى حالة من «مأسسة» المفهوم ضمن تشريعات وتعليمات وقوانين لم تتطرق يومًا إلى أصل المفهوم، وإنما باتت دائما تتلقفه من حيث وصل في نموه، دون العودة لنقد المربع الأول. وكانت النتيجة، تبني الكثير من المؤسسات لسياسات تتيح للمرأة ارتقاء السلم الوظيفي والوصول إلى المناصب القيادية بسلاسة طالما تتمتع بالكفاءة الكافية.
لكن السؤال الذي كان لا بد أن يبرز للسطح: ماذا عن دور المرأة في الأسرة؟ إن أية مؤسسة تتبنى رؤى حقوقية لن يغيب عنها حق الإنسان في تكوين أسرة، لذلك فقد قامت هذه المؤسسات بسن الكثير من القوانين التي يفترض بها أن تضمن حق المرأة في رعاية أسرتها، من إجازة للأمومة، إلى ساعات الرضاعة بعد رجوع الأم إلى عملها، إلى الكثير من الامتيازات التي تتنافس بعض المنظمات في تقديمها. لكن ما يغيب عن جميع هذه المؤسسات هو أن كل ما يتم تقديمه من منطلق «تمكين المرأة» يعطي الأولوية الأولى لاستمرار الاستقلال الاقتصادي للمرأة، بمعنى آخر، بقائها في مكان العمل، دون أي قياس –بالرجوع إلى أرض الواقع-فيما لو كانت هذه السياسات مثمرة حقًا من ناحية دور المرأة في الأسرة. وكأمثلة بسيطة أسوقها هنا:
– فيما عدا إجازة الأمومة، تتساوى الأم العاملة في الإجازات مع غيرها من الموظفين. وذلك رغم أن مهمة العناية بالأطفال المرضى، مثلاً، تكون عادة منوطة بها، مما يؤدي لاستهلاكها لإجازاتها للعناية بأطفال العائلة حال مرضهم. رغم أن الشركات تعطي بدلاً ماليًا لنفقات أي طفل يرى النور للعائلة، لكن الأم العاملة لا تعطى أي بدل للإجازات المرضية للأطفال، رغم أن هذا ليس صعبًا، فبالإمكان ترصيد هذه الإجازات بنفس الطريقة التي يرصد بها بدل نفقات الطفل، ومعاملتها تمامًا كما تتم معاملة الإجازات المرضية، بالرجوع إلى التقارير الطبية الصادرة من الطبيب المعالج للطفل، حيث يمكن للطبيب أن يقرر المدة التي يحتاجها الطفل لتطبيبه في المنزل بواسطة أمه.
– تعمل معظم المؤسسات ضمن خطة 40 ساعة عمل، بمعدل ثمانية ساعات في اليوم. رغم ذلك، فإن معظم الحضانات ودور الرعاية النهارية يتم ترخيصها ضمن ثماني ساعات عمل في اليوم أو أقل، مما يضع الأم العاملة في مأزق دائم يتمثل في التنسيق ما بين أوقات عملها ونافذة الوقت الذي بإمكانها خلالها إيصال طفلها إلى دار الحضانة وإعادته منها، والتي غالبًا ما تكون أضيق من وقت عمل الأم. ويعد هذا أمرًا غريبًا، حيث إن الهدف الأول من إنشاء الحضانات هو إيواء أطفال الأمهات العاملات في أماكن آمنة حتى يتسنى لهن الوفاء بمتطلبات العمل.
ضمن هذه المعطيات، وغيرها الكثير، ترزح الأم العاملة تحت ضغط شديد للموازنة بين حياة العمل وحياة الأسرة. وقد تجعل تشريعات «تمكين المرأة» الأمر أسوأ بالنسبة للنساء حين تتيح لهن الوصول للمناصب القيادية دون الالتفات إلى الثمن الذي تدفعه النساء عادةً على جبهة الأسرة. وقد لا نلوم بعض المؤسسات هنا لهذا التجاهل الذي تمارسه عادةً، لأن أخذ دور المرأة الاجتماعي المتطلب بطبيعته بعين الاعتبار سيؤدي إلى اعتبار الأم العاملة غير مؤهلة للمناصب القيادية، مما يتناقض مع رسالتها المنادية بعدالة الفرص بين الجنسين. لذلك، فإنها تلجأ للتغافل عن كمية الضغط الذي يتنامى على كاهل الأم العاملة في منصب قيادي، حين تزداد مسؤولياتها على جبهة العمل، وحين تزداد متطلبات عائلتها التي تنمو مع الوقت على جبهة الأسرة.
إذن، فإن الحاجة اليوم تبرز لتبني مفهوم جديد لتمكين المرأة. مفهوماً يأخذ بعين الاعتبار دور المرأة ككفاءة مهنية واعدة، وكزوجة وأم، وهذا لن ينجح على مستوى المؤسسات فقط، وإنما نحن هنا بحاجة إلى فهم جديد للأدوار في الأسرة يساهم فيه المجتمع بطيفه الواسع، عن طريق إرساء مفهوم «الثقة» في العلاقات الاجتماعية، مما يغني المرأة عن تفكيرها المستمر في الحاجة للاستقلال المادي في حال «طرأ طارئ»، وربما نفهم جميعنا هنا أننا نقصد بذلك طارئًا يتعلق بتخلي الزوج عن دوره في الأسرة أو بطلاق يمكن للزوج فيه أن يتنصل من مسؤولياته المالية تجاه أسرته التي يغادرها. إن ضمان الاستقرار المادي للأسرة دون حاجة المرأة إلى انتزاع ذلك عبر استقلال مادي يأتي على حساب مصلحة الأطفال يلعب دورًا كبيرًا في تمكن المرأة من ممارسة دورها كأم بلا منغصات، حتى لو تطلب ذلك التنحي عن سوق العمل لبضعة سنوات.
إضافةً إلى ذلك، فإن تشكيل القوانين الناظمة لأماكن العمل والقطاعات الخدماتية المتعلقة باحتياجات المرأة العاملة على حسب حاجتها عوضًا عن إجبار المرأة العاملة –خصوصًا حال كونها أمًا- على التأقلم مع ما يناسب المؤسسات المختلفة يترك لها المجال كاملاً لكي تتواجد في مكان عملها بأريحية، في الوقت الذي تطمئن فيه إلى إمكانية قيامها بدورها العائلي بكفاءة، دون أن تضطر إلى تحميل أسرتها أعباء عملها حتى تتمكن من الاستمرار، ويشمل ذلك العمل بدوام جزئي مع راتب عادل، والعمل المرن، وحتى إمكانية العمل عن بعد. ربما يكون من الضروري أيضًا أن يتم سن قوانين تجبر المؤسسات وأصحاب العمل على أخذ الفجوة التي قد تتشكل في سيرة المرأة المهنية حين تختار التفرغ لأسرتها ودورها كأم في سنين أطفالها الأولى بعين الاعتبار، بحيث تتمكن من العودة إلى سوق العمل بسلاسة وسهولة، دون أن تخشى معاملتها كـ«مستجدة» بالنسبة لسوق العمل.
خلاصة الأمر، فإن «تمكين المرأة» قد لا يكون الحل السحري لإطلاق عنان المواهب والكفاءات النسائية في المجتمعات المختلفة وإثراء سوق العمل بالقدرات النسائية. إن تمكين المرأة قد يكون بلا جدوى إذا لم تؤخذ استدامته بعين الاعتبار. بمعنى آخر، فإن تذليل العقبات أمام المرأة نحو المناصب القيادية وحده لا يكفي. ما تحتاجه المرأة فعلاً هو تشريعات تسمح لها بالبقاء في المناصب القيادية والاستمرار فيها، حتى بعد أن تصبح أمًا، مهما بلغ عدد المرات التي تقرر فيها خوض تجربة الأمومة!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست