تعود جذور العلاقة بين المرأة والأدب إلى ما قبل 4300 سنة، مع أنهيدوانا السومرية التي نظمت الشعر بالخط المسماري لتكون بذلك أول أديبة عرفها التاريخ البشري، غير أن سماء النقد الأدبي قد عرفت بزوغ مصطلحات تصنيفية قائمة بالأساس على الطبيعة البيولوجية للكاتب، من قبيل «الأدب النسائي» و«أدب المرأة» أو «كتابة الأنثى». وهو ما يحيل على نوع من الإجحاف والجنسنة الأدبية في التعاطي مع الإنتاجات النصية التي تبدعها المرأة. فهل جنس الكاتب هو المحدد لأدبية النص؟ وهل تكتب المرأة بالضرورة أدبا يختلف عن «أدب الرجل» مما يقتضي تناول نصوصها بمقاربات نقدية هامشية؟
لا شك أن تداخل السياسي والديني والتاريخي في تحديد المكانة الاعتبارية للمرأة داخل المجتمع من جهة، وفي المشهد الثقافي والفكري من جهة ثانية، قد كان له أثر مباشر على قولبة كتاباتها كما وكيفا. ما يفسر ندرة الكاتبات مقابل نظرائهن من الرجال، وكذا طبيعة نصوصها التي تميزت – وحتى وقت قريب – بالتمركز حول الذاتي والحضور الطاغي لثيمتي التحرر والانعتاق والابتعاد عن أجناس أدبية معينة كالأوتوبيوغرافيا التي تشترط خاصيتي الصدق والأمانة في سرد الأحداث والوقائع مخافة ما يمكن أن تقابل به من أحكام، عكس الإشادة والاحتفاء المكثف الذي تقابل به السيرة التي يكتبها الرجل، كمحمد شكري وطه حسين وغيرهم.
ففي الحضارة العربية القديمة كانت القيود القبلية التي تحكم سطوتها على الأدب العربي القديم تتيح للرجل حرية أكبر في البوح بمكنونات وجدانه وقرض الشعر بمختلف أغراضه. في حين كانت الشاعرات تتداولن أشعارهن الغزلية سرا خشية ما ستتداوله الألسن حول «عرضهن» و«شرفهن». مما أفقدنا موروثا أدبيا هائلا تلاشى مع موت صاحباته ولم يصلنا منه غير نزر خجول، كقول ليلى العامرية وهي تصف ما ألحقه بها العشق والكتمان، مستحضرة الرقابة التي تمنح لقيس وغيره من الشعراء الرجال، مساحات شاسعة للبوح والتعبير، عكس ما تكابده الشاعرات من ريبة وتوجس:
«لم يكن المجنون في حالة
إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسر الهوى
وإنني قد ذبت كتمانا»
وهو أيضا ما ساهم في حصر المرأة / الأنثى والجسم الانثوي في البعد الذي يتيح التعامل معها كمادة للكتابة الأدبية وموضوع للتغزل، لا منطلقا لهذا الخطاب الأدبي وذاتا منتجة له.
وفي المجتمعات الغربية كانت المرأة على طول القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين مسكونة بهاجس التلقي، ولذلك لجأت العديد من الكاتبات لتغيير أسمائهن الأدبية أو النشر بأسماء مجهولة، كماري شيلي التي أصدرت روايتها الشهيرة «فرانكشتاين» دون الإعلان عن هويتها. أو الاكتفاء بذكر الحروف الأولى من أسمائهن كجوانا رولينغ مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر التي عمدت على تذييل أعمالها باسمها القلمي «ج. ك. رولينغ»، كما كانت تكتب في أدب الجريمة باسم فني آخر «روبرت جالبرث».
وذلك تفاديًا للاقتران بهذا الجنس المقولب والزج بإنتاجاتهن النصية تلقائيا في مصاف أدب آخر أقل شأنا من ذاك الذي يكتبه الرجل. وهي ذات الفترة التي عرفت ظهور تيارات ومذاهب أدبية هامة لم يكن للمرأة أن تحظى بالنصيب الأوفر منها.
إذ نجد في كتاب «غرفة تخص المرء وحده» أن فرجينيا وولف قد استطاعت من خلال شخصيتها المتخيلة «جوديث شكسبير» (أخت ويليام التي تماثله في القدرة الإبداعية) أن تفصل بقطعية في الأسباب التي تمهد لهذه السطوة الرجالية على الأدب والحقول الإبداعية. إذ تفترض فرجينيا أن جوديث، وفي الوقت الذي كان فيه شكسبير سيوسع مداركه بالقراءة والسفر والخوض في النقاشات الفكرية التي ستشذب موهبته الأدبية وتصقلها، كانت ستحرم من الدراسة بسبب جنسها، وكانت سترغم على الزواج وتتعرض للتوبيخ إذا ما حاولت القراءة وتقع ضحية للاستغلال الجنسي إذا ما حاولت تحقيق ذاتها بعيدا عن سطوة الأسرة وسلطة الوالد وكانت لتنتحر مقبرة معها آلاف الأفكار والإبداعات الأدبية التي قوضها التصور الجمعي القائم حول المرأة قبل اكتمال تكوينها حتى.
استخدمت فرجينيا هذه الصورة التعبيرية البليغة لتشرح الغاية من تأكيدها على ضرورة ضمان الاستقلال النفسي والاقتصادي للمرأة قبل خوضها غمار الكتابة، وذلك عندما قالت في خضم أكاذيبها المشوبة بالحقيقة:
«إذا أرادت المرأة الكتابة فعليها أن تمتلك غرفة تخصها وحدها وبعض المال»
كما أن الخطاب الفلسفي المنتشر آنذاك قد كان له الدور الأكبر في تحوير تمثل المرأة وترسيخ هذه التصورات النمطية الميسوجينية في العقل الجمعي الإنساني، فهي عند روسو ليست أكثر من مجرد أداة للإنجاب وتفريغ رغبات الرجل، وهي عند شوبنهاور مجرد حيوان محدود الفكر بشعر طويل، كما أنها في التصور النيتشوي ليست أفضل من القطط والطيور والأبقار على كل حال. لذلك فمن غير الممكن التفكير في البحث عن مسوغات تتيح منح الشرعية للمصطلحات النقدية التمييزية وعلى رأسها «الأدب النسائي»، بمنأى عن هذه التمثلات الدونية التي تنظر للمرأة ككائن لا يرقى لممارسة التفكير الفلسفي أو العقلاني، ومنه إقصاؤها من المجالات الفكرية والإبداعية، وما ترتب عن ذلك من تكريس للأبوية والسلطة الذكورية المكبلة للمرأة في كل مناحي الحياة بما فيها الأدب.
لذلك فالمرأة حين تكتب أحيانا فهي تنجرف – بحكم موقعها أو موقعتها – وراء محاولة البحث عن انتزاع اعتراف الآخر الرجل، وتكتب محاولة إثبات الندية والمقدرة، لكن التعامل مع نصوصها بمنطلقات وأحكام من خارج الأدب بغض النظر عن أدبية نصوصها وجودة كتابتها قد لا يغدو كونه مجرد تمييز حديث لا يقل شأنا عن الإجحاف الذي لطالما مورس عليها، والذي من شأنه تغذية تلك الفوارق والدفع بالاختلافات بين المرأة والرجل إلى سياقات لا تخدم الأدب بشكل عام.
إن مقاربة النصوص التي تكتبها المرأة عبر منطلقات وأسس خارج أدبية بغض النظر عن نصية نصوصها والمقومات الجمالية والقيمة الفنية لعملها لا يمكنه سوى أن يسيء للأدب كما للمرأة، وينزح به من أحد أشكال التعبير والإبداع الإنساني المشترك لتكون فيه ثنائية جنس الكاتب (امرأة/ رجل) هي العامل المحدد لأدبية النصوص. ذلك أن الإقرار بشرعية مصطلح «الأدب النسائي» كجنس أدبي قائم الذات له خصائصه الفنية والجمالية يفترض بالمقابل وجود أدب آخر مواز قد تتم الإحالة عليه ب«الأدب الرجالي» في آلية تقابلية تناقض الأدب تفسه والذي يتجاوز في جوهره الاختلافات الطبقية والعرقية والنوعية والدينية والهوياتية.
كما أن تضافر كل هذه العوامل كان له دور في إبعاد المرأة عن المشهد الثقافي لسنوات وتوسيم بعض كتاباتها بخصائص معينة فرضتها السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية، كرد فعل على سنوات الاضطهاد والإقصاء لأدوارها الحياتية بما فيها الفكرية والثقافية. غير أن ذلك ليس السمة الوحيدة لأدب كل الكاتبات، فقد عرف تاريخ الأدب الإنساني تراكما هاما للإنتاجات النصية للمرأة على مستويي الكم والكيف، مشتغلة فيها على آفاق موضوعاتية إنسانية أشمل لهموم الإنسان وقلق اليومي وأسئلة الوجود وانشغالات الكتابة الكبرى المحملة بثقل التجربة الإنسانية في سياقها العام الموحد.
فهل ما زال يستقيم الحديث عن «الأدب النسائي» ضمن سياقات خارجية إقصائية تتعامل مع كل ما تكتبه المرأة كجنس أدبي هجين لا يزال يحاول استجماع صفاته ومقوماته؟ وهل يمكن القول بشرعية المصطلح اعترافا بتميز كتابات بعض النساء لا معظمهن، دون ممارسة شيء من التمييز الفكري والأدبي الذي يحرم المرأة من حق المنافسة في الساحة الثقافية؟ ثم ما الأثر الذي سيلحقه ذلك بالخطاب الأدبي والدلالات الموضوعية وجودة النصوص في ظل هذه التجاذبات الموقعية؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست