تابع العالم ما حدث في مصر منذ اشتعال شرارة الثورة المصرية الأولى في اهتمام، ثم ما لبث أن أطرق مخذولا وأعطانا ظهره وهو يرى كيف أسقط  شعب مصر صوته وكل أمل في مستقبل حر، وهو يعود ليحمل على أكتافه ضباط الشرطة في ميدان التحرير، وحتى يومنا هذا هناك من يصدق أنها كانت ثورة ثانية تلك التي حدثت في 30 يونيو، لكن الحقيقة أنها كانت ثورة مضادة لإهدار أي مكتسب حاولت ثورة 25 يناير تحقيقه لهذا الشعب. لكأن هناك من تذكر طفولته وصدقها.

نحن غنينا للوطن، وآمنا به، وعربدت أحلامنا في طرقاته، لم نلمح الضنى في وجوه آبائنا، والأسى في عيون الأمهات، لقد كنّا في حالة غياب تام عن الحقيقة، لقد زخرفوا لنا الطفولة وحملوا وحدهم هموم المواطنة ومخاطرها، نحن وآباؤنا لم نكن يوما من السادة في ذلك الوطن، لهذا فكل ما استطعناه أن نرصد الحقيقة وما أخفوه عنّا في طفولتنا عندما حانت ساعة الثورة.

وعلى مدار عام كامل بعد الانقلاب العسكري، رأينا كل صنوف المهزلة، ابتداءً من الفض الدموي الذي سيسجله التاريخ الحديث على أنه كان المجزرة الأعتى في حق البشرية، من أشخاص لا يمتلكون ذرة رؤية ولا ضمير اختاروا قصف جبهة الوطن عن إرادة ودراية، فقط لأن هناك حفنة من النقود تتبع ذلك. أي منطق في العالم كله يؤيد ما فعلوه سوى منطق الموت وشريعة الغاب حيث البقاء للأقوى. كان ما رأيته من ثبات في ميدان رابعة العدوية من أناس آمنوا بالوطن وأرادوه حرًّا ديمقراطيًّا هو الإعجاز بعينه، وأؤمن تماما أن هؤلاء بما فعلوه هم الأقوى. لو كان في الميدان شيء من السلاح لما تمكنوا من فضه، لكنهم اختاروا أن يقاوموهم بشكل شاعري، لم يترك خلفه سوى آلاف من الجثث وعائلات كاملة تعرضت للإبادة، ثم لم يتورع قاتلهم عن حرق الميدان بدمائه المسفوكة ودفن الكثير من الجثامين في مقابر جماعية.

أعقب الفض روحًا ومعنويات عجائبية للثوار؛ فنزل الكثير للشارع، وكان هناك أميال من الأمل قطعوها بالرغم من الألم العاصف الذي خلفه مشهد المدينة الفاضلة، التي أنشأها الثوار على مختلف توجهاتهم في رابعة العدوية. بقيت تلك الحالة بضعة أسابيع ثم اخترع العسكر وسيلة إرهاب جديدة، فقام باعتقال الفتيات وهتك أعراضهن في السجون. هناك من أخبرني أن أول حالة اغتصاب حدثت يوم الفض وفي ميدان رابعة العدوية، لكن لا أمتلك دليلا يؤكد كلامه، لهذا ما حدث في الميدان سيظل جزءٌ كبير منه طي من نجا من أصحابه، حتى يقرروا بأنفسهم الكلام يومًا ما.

لكن ما رأيته بعيني وما رآه العالم هو حالات الاعتقال من المسيرات وشهادات الاغتصاب في المعتقلات بعد الفض، وكان هذا عهدًا جديدًا من الألم على كل من يمتلكون الشجاعة لرفض الظلم، في وطن اختار أهله بعد أن ذاقوا طعم الحرية أن يعودوا غنمًا تساق بالعصي، لأنهم أقروا على أنفسهم أن ثمن الحرية باهظ جدًّا، وأنهم بعد مرور اثنين وثلاثين عاما على حكم الطاغية مبارك، وبعد حكم بلادهم عسكريًّا لمدة ستين سنة؛ ما عادوا بشرًا يريدون امتلاك إرادتهم الحرة.

كأن كل شخص وافق على انقلاب السيسي على مرسي كان طفلا تضربه أمه، وتخبره أنه لا يفقه شيئا، ووحدهم الكبار يفقهون. هؤلاء الأطفال لم يكبروا أبدًا، لم يؤمنوا بأنفسهم قط، ولم يتحرروا من أغلال الآخر واستعباده ولعبه على أوتار وعيهم المنسحق. يؤمنون بمن يّدعي أنه ربهم القدير، من في يده حياتهم وموتهم. هل حقًّا عبد المصريون الله أم اكتفوا بالادعاء أنهم يعبدونه، في حين أن كل منهم كان عبدًا لمصلحته، ولو على حساب شنق أخيه وسفك دمه وانتهاك عرضه.

لقد تشتت الوطن وضاع في طرقات أنانية البعض، لم يتركوا أملا واحدًا لأحد، هناك من هرب بحياته للخارج بحثا عن حقه في العيش، وهؤلاء محنة أخرى وألم آخر على جبين الوطن. يبكونه بالرغم من كل شيء، ويشتاقونه شوق الصغير لأمه. ضاع مستقبلهم فيه، وأخرجوا منه كما أخرج النبي من مكة دامعًا حزين القلب، يردد لولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت، وهناك من غاب في المعتقلات يصل أنينه لسفوح الجبال صباح مساء، تبكيهم الوحوش في البرية والكائنات في قاع البحار، لكنه لا يصل لأذن من أعمى الله بصره وبصيرته، واختار صالحه الخاص مع الفسدة، وأقنع نفسه أن هذا ما وجد عليه آباءه وأجداده، لذلك حتما هو على صواب. ماذا لو كان آباؤنا وأجدادنا على ضلال مبين بخنوعهم للحكم العسكري كل تلك السنوات، بقبولهم تزييف التاريخ والحقائق الكاملة على مدار أعمارهم.

زمننا الحالي يا سادة هو حتمًا زمن الاستحقاق. نحن الآن إما أن نستحق أن نحصد أرواح من طغى وبغى واعتدى وحرمنا حق الحلم وحق الأمان وحق التقدم، أن نكون صوتًا واحدا في وجه حفنة تتكسب بشدة من تشتت جبهة الحق وتنازعهم، ونسيانهم كيف أضاع أمثالهم الأندلس يومًا. أن نرى القتلة يشنقون في ميدان التحرير ورابعة العدوية، أن نرى ماسبيرو تبث مشاهد وحقائق لا يعرفها الناس عما حدث في ميادين مصر منذ اندلاع الثورة، وما طال الجنود على حدود الوطن وهم يقفون بظهر عار أمام أحفاد القردة والخنازير من الصهاينة، من حتما لهم اليد الكبرى في ما يحدث في بلادنا من دمار، فقيام مصر ونهضتها ستوجه الأنظار نحو القبلة الأولى المحتلة، وهو أكبر كابوس لبني صهيون، غير أني رأيت الله يخرج لهم من تحت أقدامهم أعتى كوابيسهم متمثلة في حركة حماس وأحرار غزة، لهذا سيكون عليهم في زمن الاستحقاق أن يدعوا بلادنا وشأنها رغم أنوفهم، لأن ثورة الموت أو الحياة هي ما يدق الآن باب قلوبنا جميعا، هو الاستحقاق الأوحد الذي ينتظر شعبًا رأى الغث والثمين والجدب والمطر.

يجب على الناس أن تؤمن بحدوث المعجزات، بل وأن تصدق أنها ستكون هي المعجزة لبلاد ما عرفت سوى طول الأسر وانقطاع الأمل وتكالب الخيانات عليها في الداخل والخارج. نريد قلبًا يرتضي أن يحيا ويحيا الوطن، نريد مآذنَ تكبّر في وجه الظلام العاتي الذي يتغشّانا، يتلاشى أمام جموع التحمت قلوبها دخان بنادق أرهبونا بها عمرًا، ولا يخشى الموت على أيديهم أحدٌ بعد اليوم.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد