هذا زمن الرخص يا سادة، وليس هناك ما هو أرخص من الأرواح في المنطقة العربية التي تعيش على وقع النزيف المستمر.

لا يكفي أن ينزف المواطن العربي داخل أرض الوطن، فهو مطالب أيضًا بأن ينزف خارجها، وليس له حيلة سوى أن يصنع من نفسه ضحية جديدة فقط لأنه ينتمي لبلد يقتات المآسي من طلوع الفجر، وحتى غروب الشمس.

على متن طيران الخطوط الجوية اليمنية، غادر مؤيد الحميري عدن باتجاه الأردن،على أن يغادرها مع أول رحلة جوية إلى الإمارات، ومن ثم الهند، ليخوض معركة طبية مع تليف الكبد، الذي عانى منه كثيرًا داخل أرض الوطن، قبل أن يقرر الرحيل إلى خارج الوطن، حاملًا معه جرعات من المآسي والعذاب، لكن ذلك لا يهم طالما أن الأمر لن يستغرق زمنًا طويلًا، سيصل الأردن ومن ثم سيغادرها إلى الهند بعد المرور بالإمارات.

في مطار الملكة علياء بالعاصمة الأردنية عمّان، توقفت هناك الرحلة، وتوقفت حياة مؤيد أيضًا، لن يسافر إلى الهند كما كان يعتقد لتلقي العلاج، وإنما سيعود جثة هامدة على طائرة أخرى إلى حيث أتى، وسيدفن في اليمن، البلد الذي أصبح الانتماء إليه أمرًا مثيرًا للاشمئزاز، ويستوجب التدقيق الدقيق لكل من يحمل هويته في مطارات عربية، منها مطار الملكة علياء في الأردن.

وصل مؤيد إلى الأردن أخيرًا، ولم يتبق سوى ساعات حتى تبدأ رحلته إلى الإمارات ومنها إلى الهند، لكن الأمن الأردني كان له رأي آخر، احتجز المريض ومرافقه ووثائقهما، وصادر ما بحوزتهما من أدوية كان يستخدمها مؤيد لتهدئة المرض، ومن ثم تركوا الرجل يصارع المرض فوق بلاط المطار، حاول مرافقه أن يشرح وضعه الصحي المتدهور، لكن تهمة الكوليرا كانت أسرع من نطق لسانه، قالوا له أن يبتعد، فاليمن كما هو معلوم أصبحت وطنًا للكوليرا، وفيها مئات الآلاف من المصابين بهذا المرض.

رحلت الطائرة التي كانت ستقل مؤيد إلى الهند، ورحلت بعدها بساعات طائرة أخرى أيضًا، وباءت جميع محاولات السفر عبر أي منهما بالفشل، واضطر المريض للافتراش في أرضية مطار الملكة علياء بعد أن نال منه التعب، وأضحى محاصرًا في بلاد الأشقاء.

مع اقتراب اللحظات الأخيرة للرحلة إلى الآخرة، أبلغهم المرافق بأن حالة مؤيد أصبحت سيئة للغاية، هنا فقط سمح الأمن بنقله إلى أحد المشافي القريبة، ليختم رحلة العلاج بشكل نهائي بعد لحظات من وصوله، ويبدأ رحلته نحو الآخرة، سيشكوهم إلى الله وسيخبره بكل شيء، سيخبره أن انتماءه لليمن كان سببًا يستحق الموت لأجله في مطار الملكة علياء.

رحل مؤيد بأوجاعه ولن يعلم مطلقًا أن السفارة اليمنية في عمّان أصدرت بيانًا انتهازيًا لتغطية الجريمة والتبرير لها، فضلًا عن اتهام مؤيد بأنه كان سببًا في وفاته، عندما قرر السفر وهو في وضع صحي لا يسمح له بالمغادرة، وهو ما يطرح تساؤلات عن الفائدة التي تجنيها السفارات اليمنية في الخارج، من تبريرها الإهانات المتكررة لليمنيين خارج وطنهم، وما إذا كانت تمارس عملها كسفارات لخدمة المواطن اليمني، أو كأقبية للارتزاق والمتاجرة بمعاناة اليمنيين.

يقول زكريا الحميري أحد أقارب الفقيد: «قبل فترة قصيرة، تدخل الملك الأردني شخصيًا لنقل رجل أمن إسرائيلي قتل عددًا من الأردنيين، معززًا مكرمًا إلى تل أبيب ليستقبله نتنياهو استقبال الأبطال، بينما مات أخوهم في العروبة والدين والجوار، على بلاط مطار الأردن بسبب معاملته بطريقة لا آدمية».

وتلك عبارة اختصرت القصة بشكل مؤسف، بين عدو قاتل تم تكريمه، ومريض مسالم أكرموه بشهادة وفاة، وسمحوا له بالعودة إلى وطنه لأجل أن يدفن فيه فقط.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد