ارتبط ظهور الإنسان منذ القدم بفكرة إشباع الرغبات وسعيه المستمر لتحقيق حاجياته الضرورية بشكل وطرق مختلفة، فمنذ الحياة البدائية للإنسان ارتبطت هذه الرغبات والضروريات بالوسائل التقليدية كالتدفئة والاصطياد والملبس والمسكن وغيرها وصولًا إلى مرحلة زمنية متطورة عُرفت بسيطرة خاصية الذكاء الاصطناعي على أبسط جوانب حياته وهيمنة التكنولوجيا الحديثة عليها بشكل كامل، سواء وما تعلق بالعمل، الدراسة، التنزه، السفر، وحتى خلال أيام الراحة في آخر الأسبوع، وأمور أخرى معيشية تختلف من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى.

إن التكنولوجيا الحديثة بقدر ما سهلت حياة البشر، ووفرت لهم حاجياتهم بكبسة زر واحدة، إلا أنها وفي نفس الوقت باتت تشكل تهديدًا مباشرًا، إذا ما أساء الفرد استخدام هذه التكنولوجيا، وغُيب عامل التوازن بين: تسهيل الحياة وسيطرة التكنولوجيا عليها بشكل كلي، ومالها من آثار نفسية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، على حياة الإنسان؛ الأمر الذي يستدعي البحث في صيغة جديدة لكيفية الموازنة بين استخدام التكنولوجيا كمنتج يستهلك لوقت ولهدف معين وبين أن نكون المنتوج في حد ذاته أمام هذه التكنولوجيا الحديثة؟ الإجابة هنا: يصعب علينا الموازنة بين الجانب العملي والجانب البحثي، والآخر الترفيهي، في ظل الاستخدام الحر لهذه التكنولوجيا الحديثة، خاصة ما تعلق منها باستخدامات الإنترنت، بل المفارقة أن التطور التكنولوجي سهل العملية الاتصالية وعقدها في نفس الوقت.

في هذه التدوينة سنحاول معالجة فرضية امكانية فصل الفرد والتفريق بين استخدام التطور التكنولوجي في التزاماته الحياتية، وكل ما تحتويه من: أبحاث ودراسات، هوايات، علاقات اجتماعية، ترفيه وراحة نفسية، وبين أن تصبح التكنولوجيا تهديدا لحياة الفرد، ووسيلة لهدر مزيد من الوقت والفرص.

لماذا قد نحتاج إلى ثورة نفسية قبل أن نبحث عن الثورة التكنولوجية؟

ربما يظل الفرد مستهترًا في حياته، وغير مبال لما ستؤول إليه الأمور، سواء في مجال أبحاثه، عمله، علاقاته الاجتماعية، راحته النفسية إلا بعد إدخال عامل آخر مهم يقوم بنقله من منطقة الراحة إلى منطقة الألم. يتبادر إلى ذهنك كيف يحاول أي شخص تغير حياته من الراحة إلى الألم؟ منطقيًا الأمر غير سليم، لكنه عمليًا سيعتبر العملية الأكثر صحية التي نحتاجها في حياتنا لتغيير أنفسنا وفي نفسية كل الأشخاص الذين من حولنا لتنتقل العدوى نتيجة لوباء اجتماعي منتشر مثلما يصفها مالكوم غلادويل في كتابه نقطة التحول لتتغير البيئة المحيطة بنا ككل، وتقول ميل روبنز في كتابها «قاعدة الخمس ثواني»: «One moment of courage can change your day. One day can change your life. And one life can change the world».

تخيل معي أنك ونتيجة لقوة ما تبقى أمامك شهر واحد، وينبغي عليك التغيير من نفسك، ماذا ستفعل وقتها؟ دعني أخبرك ماذا سيتبادر إليك في ذهنك، ستحاول التفكير في كل الأمور التي ندمت على فعلها، وفي المقابل ستحاول فعل كل الأمور التي تحب فعلها، هنا ستنقل نفسك من حالة الراحة إلى حالة من البحث، والتعب، والمحاسبة، والجزاء، وهذه الأمور عادة ما ترتبط بالألم لما قد تخلفه على نفسية وصحة صاحبها.

لنفكر في الأمور التي ستعود بها الذاكرة وتتحسر عليها:

كم من الوقت عزلت نفسك في مواقع التواصل الاجتماعي؟

كم شخص قريب لم تسأل عنه لوقت طويل؟

كم من قريب لا تعلم أخباره ولم تقم بزيارته؟

كم من الأوراق الرسمية تحتاج لاستخراجها ولم تزل معطلة؟

ما الذي فعلته لتطور من نفسك؟

ما الذي تعلمته مؤخرًا؟

ما الكتاب أو المقال المهم الذي قرأته ومتى؟

ما هو العمل الأخير «المستحب» الذي قمت به تجاه غيرك؟

متى آخر مرة قلت: اشتقت لك، أحبك.

أخيرًا متى آخر مرة ختمت فيها القرآن الكريم.

تطول الأسئلة التي يمكن طرحها في سعينا لمعرفة ما الذي لم نقم بفعله، أو ما الذي قد نندم على عدم فعله في فترة معينة من حياتنا، لكن سندرك أننا أهملنا العديد من الأمور المهمة في حياتنا، وأهمها أننا فقدنا علاقاتنا الاجتماعية، وأغلب الأشخاص المقربين منا بسبب سياسة العزل النفسي المتعمد الذي اخترنا أن نعيشها على مواقع التواصل الاجتماعي وبين برامج الترفيه المختلفة على شبكة الإنترنت، بأننا تركنا عالمنا الواقعي، وركضنا وراء عالم افتراضي، يشهر فيه جمهور كبير حياته الرائعة، ويخفي في كثير من الأحيان قصة معاناته الحقيقية. فقط لو بحثنا عن أجوبة لهذه الأسئلة لوجدت أن وراء كل تأخر عن العمل صباحًا سهر لوقت طويل ليلًا في محادثات ليلية بالية على تطبيقات مثل «فيسبوك» و«واتساب» و«إنستجرام»، لو بحثت عن علة اختفاء العلاقات الصادقة بين فردين أو اثنين ستجد أنهم اشتروا علاقات وهمية عبر الوسائط الاجتماعية، لو سألت متى آخر مرة ختمت فيها القرآن الكريم مثلًا ستفاجأ في كثير من الأحيان أن شبابنا لا يصلي أصلًا حتى ينتبه لختم القرآن، لو سألت متى آخر مرة قلت كلمة أحبك واشتقت لك سيقال لك: منذ لحظات فقط.. مؤسف.

من الثورة التكنولوجيا إلى الثورة العلمية؟

فعلًا الوضع مؤسف إذا ما تم اخبارنا بأن أمامنا شهر واحد لتصحيح كل ذلك، وفي المقابل ماذا سنفعل لأجل ما نحب فعله في هذه الحياة، كل ما عليك فعله مباشرة تطبيق تحدي الشهر كأنه الأخير لك في هذا العالم، إليك الآن ماذا يمكن للشخص فعله لتطوير من نفسه وفي جوانب عملية مختلفة إذا أصر على التغيير، والتزم، وأهمها آمن بنفسه، وكضرورة للبدء لابد أن يتبع بعض التوجيهات أهمها:

التخلص من كل وسائل التواصل الاجتماعية والاكتفاء بواحدة لأقرب الأشخاص.

الابتعاد وعدم الاهتمام بمختلف الأخبار السلبية في وسائل الإعلام.

تحميل بعض التطبيقات المفيدة في مجالات مختلفة : اللغة، القراءة، التحفيز، التدوين، ولمتابعة الناشطات اليومية.

تقسيم اليوم لثلاث أهداف رئيسة: تحصيل علمي، مطالعة، والالتزام في العبادات.

تعتبر هذه النقاط الأربع التي ينبغي تدوينها ضرورية لكي يتمكن الفرد من تحقيق التقدم المطلوب (مفتاح الانطلاق)، إن هذه النقاط ينبغي التركيز عليها خلال فترة الشهر الواحد، مع إمكانية تعديل القائمة حسب الظروف والمستجدات، ومع تجريب هذه الأهداف للأسبوع الأول بعدها يتم إدخال بعض الإضافات، ورفع مستوى التحدي أكثر فأكثر، وبتطبيق هذه العناصر يمكن تحقيق ما يلي (تجربة حقيقية):

1. التخلي الكلي عن استعمال أي وسيلة تواصل اجتماعي ولمدة 21 يومًا دون استخدامها ولو ليوم واحد.

2. التسجيل في منصات تعلم اللغة الإنجليزية: British Council ; English club and zamericanenglish

3. تحسين القدرات اللغوية والتأكيد على التقدم بمعدل مستويين تقريبًا في اللغة الإنجليزية.

4. العودة لمجال البحث العلمي وفي بعض الدراسات والاطلاع على بعض الدراسات والتقدم في قراءتها.

5. كتابة مقالات مختلفة مع أهمية كتابة مقالات علمية، مقالات الرأي وتدوينات بلغات مختلفة.

6. التسجيل في دورات تدريبية لتطوير الذات والإدارة في كل نهاية الأسبوع وتوجد منها المجانية عبر مواقع مختلفة.

7. المشاركة في بعض الحلقات العلمية النقاشية عن بعد مثلًا هناك حوارات المعرفة لمؤسسة محمد آل راشد المكتوب.

8. لمواصلة تطوير الذات والعمل على اكتساب مهارات جديدة اختر بعض أهم المؤثرين في مجال القيادة والإدارة، والبعض منهم حصل على أكبر عدد من المشاهدة على منصة (TED)، ومنهم:

سيمون سنيك Simon Sinek.

مالكوم غلادويل Malcolm Gladwell.

ميل روبنز Mil Robins.

توني روبنز Tony Robbins.

توم بيليو Tom Bilyeu.

9. القيام ببحث، ثم قراءة في بعض كتب هذه الشخصيات، وأقترح عليك بعض الكتب أهمهما:

كتاب نقطة تحول: كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييرًا كبيرًا The Tipping Point للكاتب مالكوم غلادويل Malcolm Gladwell.

The 5 Second Rule: Transform Your Life, Work, and Confidence with Everyday Courage Edited By Mil Robins.

10. مشاهدة بعض البرامج التثقيفية كل أسبوع.

هذه أهم 10 نقاط يمكنك العمل على اكتسباها خلال مدة شهر واحد فقط، بالإضافة إلى مشاهدة بعض الأفلام الجديدة كل أسبوع، كذلك من المستحسن القيام وكروتين يومي الاستماع ومشاهدة بعض اللقاءات التحفيزية وبعض المحاضرات حول إدارة الأعمال، القيادة والتسيير، والبحث عن بعض المفاهيم الجديدة، والدورات التدريبية في هذا المجال والتسجيل فيها.

كما أن الابتعاد عن العالم الافتراضي يجعلك تعود للعالم الواقعي، وتحاول إعادة ترميم كل ما تم تهديمه في وقت سبق، إن تحقيق هذه النتائج لن تكون صعبة إذا تم مقارنتها بأثارها النفسية على الفرد في وقت لاحق، إن كل يوم هو بداية لتحد جديد، والذي يحتاج إلى: ترك وسائل التواصل الاجتماعي، تنظيم الوقت أكثر، طاقة إيجابية، ودافع يومي أكيد.

ربما ما تم عرضه مجرد إنجازات صغيرة لكن أثرها كبير على نفسية الفرد وعلاقاته ومجال بحثه وعمله، كما أن هذه الجزئيات ستدفعك للبحث فيما هو أكثر وتجعلك تقدر نفسك وتحترمها لما تبذله وتسعى لتحقيقه، لن ندعي أن هذه الشهادات، أو المقالات، أو البرامج التعليمية، ستغير من حياتنا (على الأقل في المرحلة الحالية)، لكنها ستبعث في نفسيتك طاقة لما سيكون عليه الحال في المستقبل القريب بحول الله. وستخلصك من حالة الإدمان التكنولوجي، والعودة إلى الحياة الواقعية، بدلًا عن الحياة الافتراضية، هنا فقط يمكننا الحديث عن الثورة التكنولوجيا وأهمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي.

تذكر دائمًا أن الأشياء الصغيرة ستحدث تحولات كبيرة، اخلق نقطة تحولك.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد