«ثباتها الشديد، وليس شدتها، هو ما يمثل إرهابها». جيمس هاردي، حارس سجن نيويورك.
بقوائمها الثابتة، وشريطها المتحرك على سرعات متفاوتة، قد تبدو أجهزة السير الكهربائية صديقةً مسالمة، وخيارًا مثاليًّا للحفاظ على اللياقة البدنية. ولكنها في الواقع، تُخفي وراءها تاريخًا مظلمًا، جرت أحداثه في غياهب السجون. هذه الآلة التي لا تكاد تخلو منها الصالات الرياضية في وقتنا الحاضر، كان لا يكاد يخلو منها سجن في الإمبراطورية البريطانية خلال القرن التاسع عشر. فما الدور الذي لعبته هذه الآلات داخل تلك السجون؟ وكيف انتقلت منها إلى المنازل وصالات الألعاب؟
«تهذيب وإصلاح».. المشايات في السجون الإنجليزية
خلال القرن 19، كانت أوضاع نظام السجون الإنجليزي متردية؛ فكان من الشائع تطبيق عقوبات قاسية مثل النفي، والإعدام، وأن يقبع بعض السجناء في حبس انفرادي منعزلين في زنزانات عفنة. ونتيجة لذلك؛ ظهرت حركات اجتماعية بقيادة الجماعات الدينية، والجمعيات الخيرية، وبعض المشاهير أمثال تشارلز ديكنز، تعمل على تغيير تلك الظروف القاسية، والمساعدة في تقويم السجناء.
وعندما نجحت حركتهم، أُعيد تشكيل سجون بأكملها، وإدخال أساليب إعادة تأهيل جديدة للسجناء. وكان من بين تلك الأساليب، «المشايات». فقد رأى الإنجليز أن الحركة على تلك الآلات بمثابة تمارين رياضية يمارسها السجناء، ولا بأس من استغلالها في إنتاج الطاقة أيضًا. وبدلًا من جلوس السجناء الكسالى بلا فائدة، لما لا يتحركون ويُحركون معهم عجلة الإنتاج؟
وهكذا، ظهرت المشايات وسيلةً بديلة لعقاب وتهذيب السجناء في الوقت نفسه. ولكن متى وكيف حدث ذلك؟ وكيف كانت عواقبه على كل من الدولة، والسجناء؟
المشايات وبناء الاقتصاد البريطاني بـ«أقدام» المساجين
في عام 1818، اخترع المهندس الإنجليزي السير وليام كيوبيد، آلة يسير فيها السجناء على 24 مجداف لعجلة تجديف كبيرة. وكلما دارت العجلة، يضطر السجين للسير بخطى أسرع للحفاظ على وتيرة التسارع المتزايد، وإلا سيسقط، ومن هنا ظهرت النسخة الأولية للمشايات الحديثة.
وتشير التقديرات إلى أن السجناء كانوا يقضون في المتوسط نحو ست ساعات في اليوم على هذه الآلات، أي ما يُعادل تسلق نحو 1.5 إلى 4.3 كم، وهو ما يساوي تقريبًا منتصف الطريق إلى قمة جبل إفرست. ويفعلون ذلك خمسة أيام في الأسبوع، مع عدم وجود سوى القليل من الطعام المقدم إليهم.
بالنسبة للدولة، ساعد دوران التروس الخاصة بتلك الآلات في ضخ الماء، وطحن الحبوب، وتزويد الطواحين بالطاقة؛ وهو الأمر الذي اشتق منه اسم تلك الآلة (treadmill)، والذي يعني «طواحين الدَّوس/ وقع الأقدام». وقد ساعد إسهامها في تزويد المطاحن بالطاقة؛ في إعادة بناء الاقتصاد البريطاني، الذي أنهكته الحروب النابليونية.
وسرعان ما انتشرت فكرة كيوبيد في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية وأمريكا. وخلال عقد واحد من إنشائها، أصبح هناك أكثر من 50 سجنًا إنجليزيًّا، وعدد مقارب لذلك في أمريكا، يتباهون باستخدامها. وبحلول عام 1842، كانت المشايات تستخدم في 109 من أصل 200 سجن عبر إنجلترا، وويلز، وإسكتلندا، وفقًا للمؤرخ ديفيد شايت.
ولكن على الجانب الآخر، عانى كثير من السجناء من الإعياء الشديد، والإصابات؛ نتيجة للجهد المضني الذي تكبَّدوه مقرونًا بسوء التغذية. ولكن ذلك لم يسترع انتباه أحد حينها، بل إنه في عام 1824، أرجع جيمس هاردي، حارس سجن نيويورك، الفضل للآلة في تطويع أكثر سجنائه صخبًا، وقال عنها «ثباتها الشديد، وليس شدتها، هو ما يمثل إرهابها».
المشايات الكهربائية.. من السجون إلى البيوت
استمرت المشايات في إنجلترا حتى أواخر القرن 19، حتى حُظرت بموجب قانون السجون الإنجليزي لعام 1898؛ وذلك لكونها مفرطة القسوة. ولكن هذا لم يعنِ النهاية لتلك الآلة المتجبرة، التي أبت أن تختفي أدراج الرياح، بل عادت لتنتقم ممن أرادوا لها الفناء. وبعثت إلينا في ثوب جديد، لكن هذه المرة خرجت من بين قضبان السجون، ووصلت إلى صالات الألعاب الرياضية، وتخطت عتبة منازلنا مقتحمة غرفاتها.
في عام 1911، تقدم كلود هاجين للحصول على براءة اختراع في الولايات المتحدة الأمريكية، لآلة تدريب تتميز بحزام جهاز المشي. وفي عام 1952، ظهر الشكل الحالي للآلة العصرية التي نراها اليوم. وفي أواخر الستينيات، ظهر أول جهاز مشي في العالم، يجري إنتاجه بكميات كبيرة، اخترعه المهندس الميكانيكي ويليام ستوب، بعد قراءة كتاب عن فوائد التمارين بعنوان «التمارين الرياضية الهوائية (Aerobics)» للدكتور كينيث كوبر.
تأثر ستوب بالفوائد الصحية للجري المنتظم، التي أشار إليها كوبر في كتابه، وقرر أن يصمم جهازًا للاستخدام المنزلي، وأرسل نموذجًا أوليًّا إلى كوبر، الذي اعتقد أن الاختراع كان رائعًا، وساعده في تمويله من خلال شركته الخاصة. كذلك، ساعد كوبر في تسويق أول عملاء السيد ستوب وإرضائه، الذي أحدث اختراعه ثورة في صناعة اللياقة البدنية، ومهَّد الطريق للعديد من ابتكارات آلات اللياقة البدنية، التي نستخدمها ونستمتع بها اليوم، وفتحت أعين كثير من الناس على الفوائد الصحية للركض.
وعندما انتشرت رياضة الركض في الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي، استعادت المشايات مكانتها تحت الأضواء مجددًا. وهذه المرة ليست وسيلة عقاب أو تعذيب، بل وسيلة سهلة ومريحة لتحسين اللياقة البدنية، وفقدان الوزن الزائد. ومنذ ذلك الحين، نجحت الآلة في صورتها الجديدة في الحفاظ على شعبيتها. وبات الناس يستخدمونها طواعيةً، ويتحكمون في الوقت الذي يقضونه عليها كما يشاؤون، بعد أن كانت عقوبةً قاسيةً يُجبَرون فيها على قضاء ساعات محددة.